ألم نجعل أرض البشرية جامعة للقلوب والأرواح والأحياء بالعلم والمعرفة، حين غلبت الروح والعقل على البشرية والهوى، وللنفوس والقلوب الميتة، حين غلب الهوى. وجعلنا فيها رواسي من العقول الثابتة، لتميز بين النافع الضار، وأسقيانكم من ماء العلوم التي تحيا به القلوب والأرواح، ماءً عذباً لمَن وفّقه اللهُ لشُربه على أيدي الرجال. ويل يومئذ للمكذِّبين بها، فإنه يعيش ظمآناً، ويموت عطشاناً، والعياذ بالله.
يقول الحق جلّ جلاله للكفرة المكذِّبين:{انطلِقوا} أي: سيروا {إِلى ما كنتم به تُكَذِّبون} من النار المؤبَدة عليكم، {انطلقوا إِلى ظِلًّ} ؛ دخان جهنم {ذي ثَلاثٍ شُعَبٍ} ، يتشعّب لِعظَمه ثلاث شعب، كما هو شأن الدخال العظيم، تراه يتفرّق ذوائب، وقيل: يخرج لسان من النار يحيط بالكفار كالسرداق، ويتشعّب من دخانها ثلاث شُعب، فتُظلم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش. قيل: الحكمة في خصوصية الثلاث: أن حجاب النفس عن أنوار القدس ثلاث، الحس والخيال والوهم، وقيل: إنّ المؤدِّي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية، الحالة في الدماغ، والقوة الغضبية التي عن يمين القلب، والقوة الشهوانية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل: تقف شُعبة فوق الكافر، وشُعبة عن يمينه، وشُعبة عن يساره.
ثم وصف ذلك الظل بقوله:{لا ظليلٍ} أي: لا مُظِلّ من حرّ ذلك اليوم أو من حرّ النار، {ولا يُغنِي من اللهب} أي: وغير مغنٍ عن حر اللهب شيئاً لعدم البرودة فيه، وهذا كقوله:{وَظِلٍ مِن يَحْمُومٍ لاَّ بَارٍدٍ َولآ كَرِيمٍ}[الواقعة: ٤٣، ٤٤] ، {إِنها ترمي بشَرَرٍ} وهو ما تطاير من النار {كالقَصْرِ} في العِظم، أي: كل شررة كقصر من القصور في العِظم. وقيل: هو الغليظ من الشجر، الواحدة: قَصْرةٌ، كجمْر وجمرة، {كأنه جمالاتٌ} جمع جَمَلَ. وقرأ أهل الكوفة، غير شعبة " جِمَالةٌ " وهو أيضاً جمع جَمَل، وجمالات جمع الجمع. {صُفرٌ} فإنَّ الشرار لِما فيه من النار يكون أصفر، وقيل: سود؛ لأنَّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة، والأول تشبيه لها في العِظم، وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط. وقيل: الضمير في " إنه " يعود إلى القصر، فيذهب به إلى تصوير عجيب وتطوير غريب. شبهت الشرارة حين تنقض من النار في العظم بالقصر، ثم شبّه القصر