[كلام ابن القيم عن آثار معرفة الأسماء والصفات]
أختم هذا الحديث بكلام طويل لـ ابن القيم رحمه الله حول هذا المعنى: يقول بعد أن تحدث عن أولية الله عز وجل وما في ذلك الشهود من الغنى التام: وليس هذا مختصاً بأوليته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها، فمن شهد مشهد علو الله تعالى على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر بها أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق، وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت، بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس، إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:٥].
فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية، لا يخفى عليه منها شيء.
وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله جهر من جهر عن سمعه صوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة.
وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاته وسكناته تيقن أنه بمرأى منه سبحانه، ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء.
وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال، وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن وجزاء المسيء إليه، وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يضل ولا ينسى إلى آخر كلامه رحمه الله.
والمقصود: أن هذه الأسماء الحسنى والصفات العلى لله سبحانه وتعالى ينبغي أن تترك أثراً في نفوسنا وفي أعمالنا وفي سلوكنا، وأن نشعر أن من كمال التعبد لله سبحانه وتعالى بهذه الأسماء والصفات أن نصف الله سبحانه وتعالى بها كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، وأن ننزهه عن مشابهة خلقه ومساواة خلقه، ومع ذلك أيضاً أن نتعبد لله سبحانه وتعالى بمقتضى هذه الأسماء والصفات.
فالذي يعرف أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين لا يمكن أن يتطلع إلى ما حرم الله، أو إلى أن يخشى من غير الله أن يقطع رزقه، أو يمنع عنه رزقه فيشعر أن الأمور بيده سبحانه وتعالى، ومن يعرف أن الله سميع بصير عليم لا تخفى عليه خافية لا يمكن إلا أن يراقب الله سبحانه وتعالى، وأن يخشى الله عز وجل وأن يعبد الله كأنه يراه.
هذا ما تيسر أن نقوله بين يدي هذا الأمر، والأمر أوسع وأعظم وأجل من أن تحيط به لغة العبد الفقير المذنب المسيء، لكن هذه محاولة لأن نتأمل بعض ما يجب علينا تجاه أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته عز وجل.