للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العناية بعصر النبوة]

الأمر الرابع: العناية بهذا في عصر النبوة: ويصور لنا هذا المعنى أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أحد الشباب، وهو جندب بن عبد الله رضي الله عنه، فيقول: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا) رواه ابن ماجة.

فما أحوج الشباب اليوم إلى أن يتأسوا بهدي سلفهم رضوان الله عليهم، وكانوا وهم فتيان يتعلمون الإيمان ومسائل الإيمان كما يتعلمون القرآن، وتعلمهم لمسائل الإيمان ليس تعلمهم للمسائل الجدلية الكلامية، ولا للخلاف بين أولئك الذين يدخلون العمل في مسمى الإيمان أو يخرجونه، وإن كانت مسائل لا بد أن يتعلمها طالب العلم.

إنما كان تعلمهم للإيمان هو ذلك الإيمان الذي يحرك القلوب، والذي يصل القلوب بربها تبارك وتعالى، حتى تستجيب لأمر الله عز وجل، فحين تتعلم القرآن بعد ذلك تزداد إيمانا، ويترك القرآن أثره في النفوس.

وأيضاً يؤيد ذلك المعنى الأثر الذي ذكرناه في أول المحاضرة، وهو ما يرويه أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدر منه على شيء، قال فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قال: قلت ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء فأخبرته بالذي قال، فقال: صدق أبو الدرداء، إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس؛ الخشوع).

فسماه رضي الله عنه علم الخشوع قال: (يوشك أن تدخل المسجد مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعا).

ويحكي لنا حنظلة رضي الله عنه صورة من مجالسهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة.

قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة.

ثلاث مرات) رواه مسلم.

فانظر كيف كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت مجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه، فكانوا يتعلمون هذه المسائل، ويتعلمون هذه الأبواب، كما كانوا يتعلمون القرآن أول ما ينزل، وكما كانوا يتعلمون سائر مسائل العلم، وأبوابه.

فقد كان العلم هكذا في عصر النبوة، ولم يعرف عصر النبوة هذا الفصل المقيت بين العلم والخشوع، فيصبح هذا باباً، وذاك باب آخر، هذا له فئة وذاك له فئة أخرى.