[أمثلة من السنة النبوية للذين وقفوا أنفسهم لله تعالى]
ولنفتح بعض الصفحات من السنة النبوية؛ لنرى نماذج من هذه الأوقاف: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه، أو رجل في غنيمة أو شعبة من هذه الشعب أو بطن وادٍ من هذه الأودية يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير)، رواه مسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يصور لنا نموذجاً من أولئك الناس: فهذا الذي وقف حياته في سبيل الله عز وجل، خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، فهو على فرسه كلما سمع هيعة أو فزعة طار ولبى يبتغي الموت والقتل مظانه، فلم يبق له مطلب يسعى إليه، ولا هدف يسير إليه إلا هذا الهدف وهذا المطلب، فقد وقف حياته لله عز وجل.
والآخر الذي لم يطق الصبر على الفتن والمصائب، وصار في عصر يقتضي منه العزلة بضوابطها الشرعية، فرأى أن يعتزل الناس ليعبد الله عز وجل في شعب من الشعاب.
إن أولئك كلهم قد وقفوا حياتهم لله عز وجل، ويتمنى صلى الله عليه وسلم أمراً لم يمنعه منه إلا شفقته صلى الله عليه وسلم على المسلمين، وهو أرحم الناس صلى الله عليه وسلم، وأرقهم قلباً، كم نقرأ في سنته صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي)، (لولا أن أشق على الناس)، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨].
يتمنى صلى الله عليه وسلم أمراً يعتذر عنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شفقة على المسلمين، فيقول: (ولولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني).
وفي هذا الحديث دعوة للمسلم أن يكون هذا مسعاه، فلا يتخلف عن سرية تغزو في سبيل الله عز وجل، ولا يسمع هيعة وفزعة إلا طار ولبى يبتغي الموت والقتل مظانه، إنه لا يتقاعس عن عمل يخدم فيه دين الله عز وجل، فما أن يسمع صوتاً يدعوه بحق وصدق أن يسلك هذا الميدان، وأن يجاهد هاهنا بيديه وسلاحه وسنانه، أو يجاهد هناك بقلمه، أو يجاهد هنا بلسانه، إلا طار ولبى؛ يبتغي نصرة دين الله سبحانه وتعالى وخدمته، فقد وقف حياته لله عز وجل.
وحين قيل له صلى الله عليه وسلم إن خالداً منع الزكاة قال: (إن خالداً احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله عز وجل)، فخيل خالد وسلاحه وأعتده لم يعد لها غرض إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإعلاء كلمته، وحتى جسده رضي الله عنه قد جعله وقفاً لهذا الميدان وهذه الحياة، فمات رضي الله عنه وأرضاه وما في جسده موضع شبر إلا وفيه جرح يشهد بصدق بلائه، وصدق دعوته وإخلاصه لله عز وجل، وقد شهد زهاء مائة زحف، وهو القائل رضي الله عنه: ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب بأحب لي من ليلة شاتية في سرية من المهاجرين أصبح بها العدو.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، وأخرجاه أيضاً من حديث ابن مسعود، وأخرج البخاري نحوه من حديث أبي هريرة.
إنها صورة أخرى من صور الوقف؛ من وقف ليله ونهاره لتلاوة كتاب الله تعالى، ومن وقف ماله فأهلكه في الحق والإنفاق في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار، كلها صور وإن تنوعت مجالاتها وطرقها، فكلها تصب في نهر واحد، وتؤدي إلى طريق واحد.