للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العبادة]

وكذلك العبادة، فإنما خلق الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى، ولا يلام الإنسان على العبادة أبداً، تلاوة القرآن، الصلاة، الصيام، قيام الليل، الإنفاق، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، من الذي يقول: إن العبادة شر أو: إن فيها شراً؟ لكن هذه العبادة أيضاً لها قدر محدود إذا جاوزه الإنسان فشق على نفسه فقد خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك حين جاء طائفة من أصحابه، فسألوا عن عبادته فتقالوها، فشعروا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك وقال: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له)، وحين تزوج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه امرأة من قريش وكان قد عمر ليله بالقيام ونهاره بالصيام أتى والده عمرو رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي حاله، فدعاه صلى الله عليه وسلم فسأله: (كيف تختم القرآن؟ قال: كل ليلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بحسبك أن تختم كل أربعين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: كل ثلاثين يوماً، كل جمعة، إلى أن قال: في كل ثلاث، ثم سأله عن صيامه، فكان يصوم كل يوم، فقال: بحسبك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر) إلى أن أوصله إلى أن يصوم يوماً ويفطر آخر، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيفك- عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وحين رأى صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدوداً بين ساريتين، قال: (لمن هذا؟ قالوا: لـ زينب، تصلي فإذا فترت تعلقت به، فقال: مه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)، وحين حدثته عائشة رضي الله عنها عن امرأة رآها عندها، فكانت تذكر من صلاتها، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، والشواهد على ذلك كثيرة.

إن العبادة والصلاة وتلاوة القرآن -أيها الإخوة الكرام- من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، لكن تحتاج إلى اعتدال، فلا يشق الإنسان على نفسه ولا يشق المرء على نفسه، وإذا شق على نفسه جاوز القدر المشروع وخالف سنة أعبد الناس وأتقاهم لربه صلى الله عليه وسلم.

ومن المجالات التي قد يشدد بعض الناس ويبالغ فيها في العبادة: مبالغة بعض الناس في الحديث عن شروط العبادة، وشروط أعمال القلوب والتشديد فيها، إنك حين تسمع بعض من يتحدث عن الصلاة وعن الخشوع فيها، فيتحدث ويشدد هذا الأمر حتى كأن المصلي نادر، فيقول: إن هؤلاء الذين يصلون يندر فيهم من يخشع في صلاته، يندر فيهم من تقبل صلاته، يندر فيهم من يصلي كما أمر الله عز وجل إلى آخره، كأن الناس هؤلاء كلهم لا يؤدون هذه الصلاة وهذه الفريضة، والبعض حين يتحدث عن بعض أعمال القلوب قد يكلف الناس ما لا يطيقون، قد يتحدث البعض عن الإخلاص، وهو أمر عزيز، لكن يتحدث عنه بأنه نادر جداً، ومن النادر أن تجد الإنسان المخلص.

إذاً: وما شأن بقية الناس؟! وهل هذا هو الدين الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر)؟! أين هذا من نصوص القرآن المحكمة الواضحة ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم؟ إذاً -أيها الإخوة-: التشديد والمبالغة ومجاوزة القدر حتى ولو كان في عبادة الله عز وجل؛ إذا جاوز الإنسان القدر الشرعي القدر الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في كتاب الله، فإنه يصبح أمراً مذموماً.