الأمر الأخير: غياب النسبية: هناك أمور هي حق أو باطل، واضحة؛ ما جاء في الكتاب والسنة، فالأمور الظاهرة المشتهرة ليس فيها مجال لأن يناقشها الناس، لكن هناك أمور فيها نسبية، هناك مسائل اجتهادية ليس فيها نص، وهي محل اجتهاد، هناك أمور تتعلق بالتعامل مع الواقع؛ الأفكار الدعوية، المشروعات، تقويم الواقع، المشروعات الإصلاحية، كثير من القضايا التي هي محل حوار وجدل اليوم بين المصلحين والغيورين هي في ضمن هذه الدائرة، هذه الدائرة فيها نسبية كبيرة، فحينما أدعو إلى مشروع، حينما أدعو إلى برنامج، وأعتقد أن هذا الموقف صحيح، قد يكون موقفاً صحيحاً بنسبة معينة في مثل هذه الحالات، ليست القضية إما صواب وإما خطأ، إما حق وإما باطل، الحق ما وافق الكتاب والسنة صراحة، والباطل ما خالف الكتاب والسنة، وفيما سوى ذلك هناك أمور كثيرة تبقى مجال رأي، مجال اجتهاد، وهي قضايا نسبية، فالنسبية غائبة في تفكيرنا في هذه الدائرة، ولهذا نحن نريد أن نحسم القضية، فإما صواب وإما خطأ، إما حق وإما باطل.
أذكر شخصاً كنت أتحدث معه حول موضوع عن تدريس القرآن الكريم ومشكلة ضعف الطلاب في دراسة القرآن، فيقول: غير صحيح أن تأتي وتضع استبانة وتسأل الناس: كم نحتاج من حصة للقرآن؟ هذا إن ساغ فلا يسوغ في العلوم الشرعية، العلوم الشرعية ما فيها إلا صواب أو خطأ، ما فيها إلا حق أو باطل! وهي قضية ليست قطعية، فحين نقول: كم ينبغي أن يدرس الطالب من حصة في القرآن الكريم؟ فليست هذه مسألة حق وباطل، يعني: حينما أقول أنا: يدرس حصة واحدة، وأنت تقول: يدرس حصتين، والآخر يقول: يدرس ثلاث حصص، هذه قضية نسبية ليست قضية حق وباطل، الحق ما وافق الكتاب والسنة، والباطل ما خالف الكتاب والسنة، أما ماذا ندرس الطالب؟ وكيف ندرس الطالب؟ فهذه قضية من الطبيعي أن تختلف فيها الآراء، ومن الطبيعي أن تختلف فيها المواقف.
كنا نتناقش مع بعض الإخوة حول مناهج العلوم الشرعية، فكان شخص يقول: إن العلوم الشرعية ثابتة مستندة إلى الكتاب والسنة، قلت: يا أخي الكريم! لسنا نتحدث عن المحتوى العلمي الشرعي، نحن نتحدث: كيف نسوغ المنهج، كيف ننظم المحتوى، كيف نعد المنهج؟ هذه قضية ليست ثابتة، هذه قضية نسبية وتختلف فيها الآراء، حتى مناهج العلوم الشرعية، يمكن أن نراجعها ونعيد فيها النظر، ليست القضية في محتوى هذا العلم، ليست القضية في موقفنا من الجهاد، في موقوفنا من الولاء والبراء، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن كيف نقدم المادة للطالب باللغة التي يفهما؟ كيف ننظم محتوى المادة؟ هذا شيء والمحتوى شيء آخر.
فغياب النسبية يؤدي إلى مبالغة ويؤدي إلى غلو، فيعتقد الإنسان أنه مادام يتحدث عن قضية شرعية بدافع شرعي، فإن موقفه صواب مائة في المائة وحق مائة في المائة، وحينئذ يرى أنه على الحق ومن يذمه يذم إنساناً يعمل بالحق ويدعو إلى الحق، مثل الإنسان الذي ينكر منكراً بطريقة غير صحيحة، حينما تنكر عليه، يقول لك: أنت ضد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أنت تقف مع أهل الفساد، وليس بالضرورة ذلك، لست أقف مع أهل الفساد ولست أقف ضدك، لكن هذه وجهة نظري أن هذا العمل الذي تقوم به لا يؤدي النتيجة، أن هذا الأمر لا يحقق المصلحة، فرق بين أن أعترض على أسلوبك أنت، بين أن أعترض على عملك، وبين أن أطرح رأياً آخر غير رأيك، ليس في ذات المنكر، إنما في طريقة تعاملنا معه، فموقفنا من المنكر وإنكاره قضية، وتلك قضية أخرى.
أعتقد أن الوقت يضيق، ولعل هذا الحديث عن إبراز بعض مجالات وأسباب غياب الاعتدال لعله أن يفيدنا كثيراً في النزوع إلى الاعتدال والسعي دائماً إلى أن نراعي الاعتدال في مواقفنا وأن نعلم أن مجرد أن نعتقد أننا نقف موقف حق لا يسمح لنا أن نتجاوز إلى أقصى حد، وأننا حينما ننطلق من فهم لموقف شرعي لا يعني أن موقفنا كله صحيح وموقفنا كله سليم، فينبغي أن نتعامل دائماً بعلم وعدل، والأمور كلها بعدل حتى العبادة والطاعة كما قلنا، إذا جاوز فيها الإنسان القدر فإنها تتحول إلى غلو وتنطع مذموم.
أعتقد أن الوقت يفرض علي أن أتوقف هنا، وإن كانت بقيت بعض القضايا والنقاط التي تحتاج إلى إشارة، لكن لعله أن يأتي في الأسئلة ما يمكن أن يجعلنا ننبه عليها.