رابعاً: عندما نتأمل في سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نلمس هذا واضحاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة).
الآن النبي صلى الله عليه وسلم يصنف لنا أصحابه، فمثلاً أبو بكر هو أرحم الأمة، وقد كان رجلاً رقيقاً، أما عمر رضي الله عنه فقد كان فيه حدة وشدة، فكان أشد الناس في أمر الله سبحانه وتعالى، ثم هذا أعلمهم بالفرائض، وذاك أقرأهم للقرآن، وهذا أعلمهم بالحلال والحرام، إلى غير ذلك من أبواب الخير.
فهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوتون، فكل شخص له ميدان ومجال يؤدي فيه دوراً لا يمكن أن يؤديه الآخر، فمثلاً معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام هذا لا يعني أنه أفضل من أبي بن كعب مثلاً، وأبي بن كعب أقرأ الأمة ولا يعني هذا أنه أفضل من معاذ، لأن معايير التفضيل معايير أخرى، وحتى تتضح لك الصورة أكثر فإن أبي بن كعب أقرأ الأمة لكتاب الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أنه أفضل من عمر؟ لا، قطعاً ليس أفضل من عمر، وكذلك ليس أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فتى نابغاً فقرأ وحفظ فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بموهبته فأمره أن يتعلم السريانية لغة اليهود فتعلمها رضي الله عنه قيل حدقها في سبعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً، الآن زيد بن ثابت رضي الله عنه هنا قضى وقتاً في تعلم هذه اللغة، ولا شك أنه قد يأتي قائل يقول: إن هذا الوقت الذي يقضيه في تعلم اللغة يمكن أن يقضيه في قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل، أو في حفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الجهاد في سبيل الله أو غير ذلك، لكن هذا باب خير لا بد أن يُسلك، ومجال لا بد أن يُسد لهذه الأمة، فتصدى زيد رضي الله عنه لهذه المهمة، والنبي صلى الله عليه وسلم هاهنا أعطانا درساً أن كل ميدان من الميادين، وكل مهمة من المهمات يجب أن يقوم في هذه الأمة من يتولاها، وقد تكون مفضولة كما سيأتي لكنها بالنسبة له قد تكون أفضل من غيرها.
علي رضي الله عنه سئل عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال:(عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عن ابن مسعود قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى به علماً.
قلنا: أبو موسى؟ قال: صُبغ في العلم صبغة ثم خرج منه.
قلنا: حذيفة؟ قال: أعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمنافقين.
قالوا: سلمان؟ قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت.
قالوا: أبو ذر؟ قال: وعى علماً عجز عنه.
فسئل عن نفسه؟ فقال: كنت إذا سألت أُعطيت، وإذا سكت ابتديت).