للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التواضع]

وبعد ذلك ننتقل فيما تبقى من الوقت إلى جولة سريعة مع بعض الجوانب من خلقه صلى الله عليه وسلم، وهي لمجرد التمثيل لا الحصر، بل كما قلت في أول الحديث: لو أنا أخذنا جانباً واحداً من هذه الجوانب وكان موضوع حديثنا، وسعينا إلى أن نتقصاه في كتب السنة لشعرنا أن الوقت يضيق بنا، وشعرنا أننا حين نريد أن نجمع من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الجانب قد لا نطيق ذلك ولا نستطيعه، لكنها إشارات عاجلة إلى بعض الجوانب مما تميز به صلى الله عليه وسلم من تمام الخلق لتكون مجال قدوة وتأس لنا بهذا النبي صلى الله عليه وسلم.

من أهم مجالات الخلق الحسن التي ينبغي أن نتحلى بها التواضع، وما أصعب هذا الخلق على من يكون له مكانة عند الناس بعلم أو جاه أو منزلة، فقد يشعر المرء أن منزلته ومكانته عند الناس تتطلب منه أن يترفع، وقد يكون في قلبه شيء من الكبر من حيث لا يشعر ويرى أن هذا من تمام الوقار ومن تمام المحافظة على هذه المنزلة التي اكتسبها بين الناس حتى لا تضيع.

وانظروا مثلاً ما الذي يسيطر على تفكير الأستاذ وهو بين يدي طلابه وتلامذته، وما الذي يسيطر على تفكير الرجل الوجيه عند الناس وهو بين عامة الناس، فأي رجل له منزلة ومكانة كالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وأي رجل أحق بالتقدير والتوقير والاحترام منه صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم متواضعاً، كما حكى عنه عبد الله بن أوفى رضي الله عنه فيما رواه النسائي والدارمي يقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصّر الخطبة، ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما).

وكان صلى الله عليه وسلم كما روى عنه أنس يخالط أنساً وأهل بيته حتى كان يمازح أنساً رضي الله عنه فيقول له: (يا ذا الأذنين) وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأخ لـ أنس أصغر منه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان له طائر يلعب به، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فرآه حزيناً كاسف البال، فسأل صلى الله عليه وسلم أهله عن شأنه فقالوا: مات نغره أو طيره الذي كان يلعب به، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟).

هاهو صلى الله عليه وسلم الذي يناجي ربه تبارك وتعالى، والذي يتنزل عليه الوحي، والذي يحمل الرسالة، ويعلم الأمة كلها أجمع، لا يستنكف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة، وأن يمشي مع المسكين، وأن يقضي للناس حوائجهم، وأن يمازح الصبيان ويداعبهم ويسلم عليهم صلى الله عليه وسلم، فعجباً لهذا الرجل صلى الله عليه وسلم! يقول عنه أحد أصحابه وهو يتحدث عنه ويصفه: لقد أقوم مقاماً لو يقوم به يرى ويسمع ما قد أسمع الفيل لظل ترعد من وجد بوادره إن لم يكن من رسول الله تنويل كان أصحابه لا يحد أحدهم النظر إليه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، إذا تحدث النبي صلى الله عليه وسلم خفضوا أصواتهم، وكان صلى الله عليه وسلم كما شهد بذلك أبو سفيان: (ما رأيت رجلاً يحبه أصحابه كما يحب أصحاب محمد محمداً) ومع هذه المنزلة العالية كان هذا شأنه صلى الله عليه وسلم وتواضعه مع سائر الناس، وصدق صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (ما زاد الله عبداً بتواضع إلا عزاً).