وقبل أن أختم المحاضرة أذكر كلمة رائعة طويلة للأديب علي الطنطاوي في رسالة له يا إبني، لعلي أقرأ مقتطفات منها فهي طويلة يقول: لماذا تكتب إليّ على تردد واستحياء؟ تحسب أنك وحدك الذي يحس هذه الوقدة في أعصابه من ضرم الشهوة، وأنك أنت وحدك الذي اختص بها دون الناس أجمعين.
لا يا بني هوّن عليك، فليس الذي تشكو داءك وحدك، ولكنه داء الشباب، ولئن أرقك هذا الذي تجد وأنت في السابعة عشرة، فطالما أرّق كثيرين غيرك صغاراً وكباراً، ولطالما نفى عن عيونهم لذيذ الكرى، ولطالما صرف عن درسه التلميذ وعن عمله العامل وعن تجارته التاجر، فماذا يصنع الفتى في هذه السنوات وهي أشد سنين العمر اضطراب شهوة واضطراب جسد وهياجاً وغلياناً! ماذا يصنع؟ هذه هي المشكلة، أما سنة الله وطبيعة النفس فتقول له تزوج، وأما أوضاع المجتمع وأساليب التعليم فتقول له اختر إحدى ثلاث كلها شر، ولكن إياك أن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير، وهي الزواج، أولاً: إما أن ينطوي على نفسه، على أوهام غريزته، وأحلام شهوته تدأب على التفكير فيها وتغذيها بالروايات الداعرة والأفلام الفاجرة والصور العاهرة، حتى تملأ وحدها نفسك وتستأثر بسمعك وبصرك، فلا ترى حيثما نظرت إلا صور الغيد الفواجر، تراهن في الكتاب إن فتحته، وفي طلعة البدر إن لمحته، وفي حمرة الشفق، وفي سواد الليل، وفي أحلام اليقظة، وفي رؤى المنام أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل ثم لا تنتهي بك الحال إلا إلى الهوس أو الجنون أو انهيار الأعصاب.
ثانياً: وإما أن تعمد إلى ما يسمونه الاستمناء (العادة السرية)، وقد تكلم في حكمه الفقهاء، وقال فيه الشعراء، وهو إن كان أقل الثلاثة شراً وأخفها ضرراً، لكنه إن جاوز حده ركب النفس بالهم، والجسم بالسقم، وجعل صاحبه الشاب كهلاً محطماً، كئيباً مستوحشاً يفر من الناس ويجبن عن لقاءهم، ويخاف الحياة ويهرب من تبعاتها، وهذا حكم على المرء بالموت وهو في رباط الحياة.
ثالثاً: وأما أن تغرف من حمئة اللذة المحرمة وتسلك سبل الضلال وتؤم بيوت الفحش، تبذل صحتك وشبابك ومستقبلك ودينك في لذة عارضة ومتعة عابرة، فإذاً أنت قد خسرت الشهادة التي تسعى إليها، والوظيفة التي تحرص عليها، والعلم الذي أمّلت فيه، ولن يبقى لك من قوتك وفتوتك ما تضرب به لجج العمل الحر، ولا تحسب بعد أنك تشبع! كلا، إنك كلما واصلت واحدة زادك الوصال نهماً، كشارب الماء الملح لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً، ولو أنك عرفت آلاف منهن، ثم رأيت أخرى ممتنعة متمنعة عليك معرضة عنك لرغبت فيها وحدها، وأحسست من الألم لفقدها مثل الذي يحسه من لم يعرف امرأة قط، وهبك وجدت منهن كلما طلبت ووسعك السلطان والمال، فهل يسعك الجسد؟ وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة؟ وكأني أسمعك تقول: هذا الداء فما الدواء؟ الدواء أن تعود إلى سنة الله وطبائع الأشياء التي طبعها الله علينا، إن الله ما حرم شيئاً إلا أحل شيئاً مكانه، حرم المراباة وأحل التجارة، وحرم الزنا وأحل الزواج، فالدواء هو الزواج، فإذا لم يتيسر لك الزواج فليس إلا التسامي، وأنا لا أريد أن أُعقّد هذا الفصل الذي كتبته ليكون مفهوماً واضحاً لمصطلحات علم النفس، لذلك أعمد إلى مثال أمثّله لك أترى إلى إبريق الشاي الذي يغلي على النار، إنك إن سددته فأحكمت سده وأوقدت عليه فجّره البخار المحبوس، وإن خرقته سال ماءه فاحترق الإبريق، وإن وصلت به ذراعاً كذراع القاطرة أدار لك المصنع وسيّر القطار وعمل الأعاجيب، فالأولى حال من يحبس نفسه على شهوته يفكر فيها ويعكف عليها، والثانية حال من يتبع سبيل الضلال ويؤم مواطن اللذة المحرمة، والثالثة حالة المتسامي المستعف إلى أن قال: هذا هو الدواء: الزواج وهو العلاج الكامل، فإن لم يمكن فالتسامي وهو مسكن مؤقت، ولكنه مسكن قوي ينفع ولا يؤذي.
ثم تحدث عن الاختلاط ودعوتهم إلى ذلك يقول: وإذا نحن جوزنا للشباب ارتيادها لاستغنوا بذلك عن الزواج، فماذا نصنع بالبنات؟ هل نفتح لهن أيضاً محلات عمومية فيها بغايا من الذكور؟ كلام فارغ يا بني والله، وما تقوله عقولهم ولكن غرائزهم، وما يريدون إصلاح الأخلاق، ولا تقدم المرأة، ولا نشر المدنية، ولا الروح الرياضية، ولا الحياة الجامعية، إنما هي ألفاظ يتلمظون بها ويبتدعون كل يوم جديداً منها يهولون بها على الناس ويروجون بها لدعوتهم، وما يريدون إلا أن نُخرج لهم بناتنا وأخواتنا ليستمتعوا برؤية الظاهر والمخفي من أجسادهن، وينالوا الحلال والحرام من المتعة بهن.
ثم قال بعد ذلك: وبعد، فيا بني عليك بالزواج ولو أنك طالب لا تزال، فإن لم تستطعه فاعتصم بخوف الله والانغماس في العبادة إلى آخر كلامه.