وهذان المجالان من أكثر ما يقع فيه الغلو في الدين، وليس حديثي عن هذا، ليس حديثي عن الغلو في العبادة وما يتعلق بها، فإن غالب حالنا اليوم هو التفريط والله المستعان، وإن وجدت حالات من الغلو والشطط -سواء في الاعتقاد أو في العمل والسلوك- فإنها حالات قليلة، لكن الظاهرة التي أعتقد أننا نشتكي منها كثيراً، هي أن الاعتدال يغيب كثيراً في تفكيرنا، يغيب كثيراً في حديثنا، في آرائنا، في مواقفنا، في وزننا للأمور، وهذا ما أريد أن أركز الحديث حوله.
ولهذا أنتقل إلى المجال الثالث من مجالات الاعتدال: السلوك الشخصي.
ثمة صفات محمودة يحبها الناس، لكنها بقدر، فالشجاعة إنما تطلب بقدر، وقد تنقلب تهوراً، ويعتقد الإنسان أنه كلما ازداد فيها أصبح الأمر محموداً، والحلم مطلوب، لكنه قد ينقلب عند بعض الناس إلى ضعف وخور، فلا يغضب لما ينبغي أن يغضب المسلم من أجله، وهكذا سائر الصفات.
والغيرة على حرمات الله عز وجل قد تتحول عند البعض إلى جفاء في التعامل مع أهل المعصية، جفاء في التعامل مع الناس.
وحسن الخلق واللطافة قد تتحول أحياناً بالإنسان إلى أن يترك الحزم في المواطن التي ينبغي أن يحزم فيها.
السلوك الشخصي سلوك الإنسان في حياته، في تعامله مع وقته، في تعامله مع نفسه، في تعامله مع الآخرين، ينبغي أن يقوم على الاعتدال، والصفة المطلوبة أياً كانت، إنما تطلب بقدر كالملح في الطعام، كالبرودة في الماء الذي لا يستسيغه الناس إلا بارداً، إنما تطلب بقدر، فإذا جاوزت هذا القدر أصبحت قد جاوزت الاعتدال، سواء أكانت في هذا الطرف أو في الطرف الآخر.