للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وفي العاطفة النبوية هدي]

حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد مواقف شتى تدور حول هذا المعنى، وسواء سميناها عاطفة، أو لم نسمها كذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألقاب، سمها ما شئت فإنها تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة، فإن هذا لا يعني أن وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً، ولفظ جرح يتردد المرء في أن يصف به محمداً صلى الله عليه وسلم.

وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا، فأنت وما تريد، لكنا نحن نريد المعنى، ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح، وحول هذا الموضوع.

النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك هذا الشعور، يملك صلى الله عليه وسلم هذا الشعور مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة رضي الله عنها وقد حاضت، ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج، فتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة، وأذهب بحج؟! ثم تلح عليه صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً إذا هوت أمراً تابعها هي، ويواعدها صلى الله عليه وسلم المحصب أو الأبطح، ثم تذهب مع أخيها، فتعتمر، فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أفرغتم؟ فتقول: نعم، فيؤذن أصحابه بالرحيل).

وفي موقف آخر أبعد من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة، ففقدت عقداً لها رضي الله عنها، وحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجرها، فيقول: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت: فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ويقيمون البعير فتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل آية التيمم، فيقول أسيد رضي الله عنه: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

إن النبي صلى الله عليه وسلم يحبس الجيش هنا كله، ويبقيه ينتظر هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق بالدنيا حاشا وكلا، إنما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، تلك المشاعر المرهفة عند مثل هذه المرأة، التي تقيم لهذا العقد وزناً، فيحبس النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر الصديق رضي عنه غاضباً إلى عائشة: كيف حبست الناس؟! ويبقيهم صلى الله عليه وسلم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.

وتأتي رضي الله عنها تنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد، ويقف صلى الله عليه وسلم يسترها، وهي جارية لا تمل اللعب، حتى تمل وتنصرف بعد ذلك، فينصرف صلى الله عليه وسلم.

ونرى أيضاً هذا الخلق وتلك الرقة عنده صلى الله عليه وسلم مع الأولاد، فيأتي إليه الصبي فيقبله صلى الله عليه وسلم، فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول: تقبلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!) وفي الحديث الآخر أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم).

ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصبي يحتضر، وروحه تقعقع، فيحمله صلى الله عليه وسلم، ثم تنزل قطرات من الدمع من عينيه صلى الله عليه وسلم، ويتساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يرق؟! كيف لهذا القلب الكبير أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي؟! فيقال: ما هذا؟ فيقول: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده).

ويموت ولده إبراهيم، ويبكي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).

في حين يأتي أحد المتصوفة، ويرى أنه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشعر أنه قد أمر بالصبر على فقد الأولاد، والرضا، فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره فرحاً بهذه المصيبة، ويظن أنه قد بلغ منزلة من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره عالية، بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما إليها النبي صلى الله عليه وسلم حين يجمع بين الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة التي لا يفتقدها إلا إنسان شاذ.

ويأتي الحسن والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم السجود، حتى يقوم هذا الغلام، فيسأله أصحابه، فيقول: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته).

ويدخل وهو يخطب صلى الله عليه وسلم، فينزل صلى الله عليه وسلم من على منبره، ثم يحمله، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من طوائف المسلمين).