رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده هم حملة الدعوة، فكانوا هم أيضاً رضوان الله عليهم دعاة صامتين لمن جاء بعدهم، فقد كانوا رضوان الله عليهم يترسمون معالم منهج اختطه لهم صلى الله عليه وسلم، فتعيش الدعوة حية في قلوبهم وضمائرهم، يقرأ ذلك من يطلع على سيرهم قبل أن يسمع أقوالهم، حين دعا صلى الله عليه وسلم الناس للصدقة، وقد جاء قوم مجتابي النمار فرق صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب القلب الرحيم- لحالهم، وتألم صلى الله عليه وسلم لمنظرهم فخطب في الناس ودعاهم لأن يتصدقوا مما يملكون من درهمهم من دنانيرهم من صاع برهم من صاع تمرهم من ثيابهم، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فتتابع الناس بعد ذلك، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار هذا الرجل داعية صامتاً، صار هذا الرجل داعية بحاله لأولئك الذين كانوا يشهدون هذا المشهد حتى تتابعوا في بذل صدقاتهم، حتى رئي عند النبي صلى الله عليه وسلم كومين من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
وحين استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ليغزوا الروم ولم يعذر أحداً في ذلك، جاء أقوام لا يجدون ما يحملهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يحملهم، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، تولى هؤلاء وهم يبكون أن لم يفتح لهم الميدان ليشاركوا في الجهاد في سبيل الله، فخلد القرآن ذكرهم وسيرتهم، ليكون هذا الموقف دعوة لمن جاء بعدهم أن يعيش كما كان يعيش أولئك:{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}[التوبة:٩٢].
إن من لم يفتح له الميدان للجهاد في سبيل الله، إن من لم يطق أن يشارك مع المجاهدين الصادقين الصابرين، ولم يجد مالاً ينقله إلى ساحة الجهاد، أو لم يجد سلاحاً يقاتل به، أو لم يجد ميداناً يفتح له ليجاهد في سبيل الله، إن ذلك لا يمكن أن يعذره بحال في ألا يحدث نفسه بالجهاد في سبيل الله، والنصح لله ورسوله، إن الذي لم يجد ميداناً يشارك فيه، ولم يجد ميداناً يعيش فيه مع الصادقين الصابرين المخلصين لا يعذر أبداً في ألا يعيش معهم بقلبه، وأن يعيش معهم بحاله، وأن ينصح لله ورسوله.
وهاهم جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى أهل مكة برسالة مع عروة بن مسعود فيرجع مشدوهاً إلى أصحابه يحدثهم بما رأى، وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان، يرجع إلى أصحابه يقول: لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له.
نعم أيها الأخوة، لقد رجع عروة بغير الوجه الذي ذهب به، لقد رجع وقد رأى هذا الموقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رأى هذا الموقف الذي يعبر عن الحب الصادق، الذي يعبر عن الود البعيد عن أبهة الملوك التي كان يعيشها قيصر وكسرى والنجاشي، وقد سبق له أن وفد عليهم فعلم هذا الرجل أن للنبي صلى الله عليه وسلم شأناً آخر غير شأن أولئك الملوك، وعلم أن هؤلاء أتباع صادقون جادون غير أتباع أولئك الملوك: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع أولئك أصحاب النبي وحزبه ولولاهم ما كان في الأرض مسلم ولولاهم كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها ولكن همُ فيها بدور وأنجم فيا لائمي في حبهم وولائهم تأمل هداك الله من هو ألوم بأي كتاب أم بأية حجة ترى حبهم عار علي وتنقم وها هي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى صورة ناطقة للأجيال، ما إن يتحدث متحدث وما إن يتكلم متكلم إلا ويجد نفسه مضطراً لأن يزين مقالته ويدبجها بمواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وفي تعلم العلم، وفي الإحسان إلى الناس، وفي عبادة الله عز وجل، وفي كل ميدان من الميادين ما إن يتحدث متحدث أو يخطب خطيب إلا وهو يرى أمام عينيه مواقف لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى منارة للأجيال من بعدهم، ذكر ذلك الجيل الذي اختاره الله عز وجل ليكون فرط هذه الأمة، الذي اختاره الله تبارك وتعالى ليتشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وحمل هذا الدين، يبقى ذلك الجيل داعية لسائر الأ