للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نماذج قرآنية لتحمل مسئولية الدعوة إلى الله]

أخيراً لعلي أن أشير باختصار إلى بعض النماذج التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من الناس الذين كانوا يدركون مسئوليتهم من آحاد الناس، فمثلاً في قصة موسى لما تآمر عليه فرعون وملؤه قام رجل مؤمن ذكر الله قصته في سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:٢٨] إلى آخر الآيات وحواره الطويل معهم.

رجل مؤمن كان يكتم إيمانه، ما كان من العلماء ولا من المشهورين لكنه رأى أن من واجبه أن يدافع عن موسى، وأن يدافع هذه الدعوة.

نموذج آخر في قصة أصحاب القرية {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:١٣ - ١٤] إلى آخر الآيات وفيها بعد ذلك: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:٢٠ - ٢١].

لاحظ معي هنا هذا الرجل الذي لا يظهر لنا من خلال السياق أنه صاحب علم، فالدور الذي قام به يستطيع أن يقوم به كل إنسان، قال: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:٢٠ - ٢١] يعني غاية ما يقوله للناس: اتبعوا هؤلاء الذين يدعونكم إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى دين الله، فلما قُتل هذا الرجل ودخل الجنة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:٢٦ - ٢٧] لا يزال يحمل هاجس الدعوة حتى بعد أن مات وبعد أن دخل الجنة يتمنى أن قومه الذين قتلوه يعلمون بما غفر الله له، حتى يسلموا، وحتى يتوبوا ويدخلوا الطريق انظر فعلاً إلى ما كان يحمله هذا الرجل من هم، ولذلك يقول ابن هبيرة: تأملت حال هذا الرجل فرأيت عجباً، يقول: جاء من أقصى المدينة ولم يأت من وسطها، وجاء يسعى ولم يأت راكباً نموذج آخر في قصة سليمان لما تفقد الطير وفقد الهدهد: {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢٠ - ٢١] فلما جاء الهدهد قال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:٢٢ - ٢٤] يعني الهدهد يرى أن مسئوليته على الأقل أن يبلّغ عن هذا المنكر الذي رآه، أن يبلّغ عن أمر أحاط به ولم يحط به سليمان، وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أنه نظراً لأن هذا الهدهد قام بهذا الدور دخلت هذه الأمة في الإسلام {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:٤٤] ومن كان وراء إسلامهم؟ البداية كانت من هذا الهدهد.

نريد أن يكون عندنا على الأقل ولو من يحمل روح وعقلية ذاك الهدهد مع أنه غير مكلف، وهي جهود يستطيع أن يقوم بها آحاد الناس وأفراد الناس.

عندما تخاطب أحياناً بعض طلبة العلم وبعض الناس الذين هم على مستويات عالية، بل هم أحياناً أفضل منك يعتذر لك بأنه لا يستطيع، ويذكر لك قائمة من هذه الأعذار التي سبق أن أشرنا إليها، الآن استخرج لي إحصائية سنوية كم يتخرج من الكليات الشرعية عندنا في هذا المجتمع؟ احذف نصفهم، ثم احذف نصف النصف يبقى الربع فقط، فلو أن ربع الخريجين جعل لنفسه في السنة أسبوعاً فقط يذهب إلى منطقة من المناطق المحتاجة، ويحضر له موضوع خلال السنة كلها، ويأتي إلى هذه القرية ويلقي هذه المحاضرة، ثم يلقيها في القرية الأخرى، ويعيدها ويكررها في أكثر من موطن، وآخر جاء وألقى نفس المحاضرة في أكثر من مدرسة مثلاً، والآخر كذا وكذا، لحصل خير كثير.

بل لو أن نسبة عشرة بالمائة فقط منهم من حملة العلم الشرعي لحصل ذلك، لكن أين حملة الرسائل الأعلى رسائل الماجستير والدكتوراه في التخصصات الشرعية؟ وما نتيجة هذا العلم الذي حصّلوه؟ إنه كما قلت الأسلوب الذي نمارسه لنتهرب من المسئولية، ونحن نحتاج من كل إنسان مهما كان تخصصه، ومهما كانت قدراته ومهما كان مستواه إلى أن يقوم بدور