للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاعتدال في النقد]

أيضاً من الأمور المهمة: الاعتدال في النقد: أحياناً يكون تفكيرنا تفكيراً متطرفاً، فلا نجيد إلا الإعجاب المطلق المبالغ فيه، أو الذم والنقد والعيب المبالغ فيه، وهذا نراه مثلاً في أقرب صورة محسوسة حينما نتعامل مع الجانب المادي أو الواقع المادي، حينما تقوم سلعة من السلع، وتبحث عن آراء الناس فيها، تجد أنهم يتفاوتون بين من يقول لك: هذه سلعة متميزة، ولا يعلى عليها، ولا يقاس غيرها بها إلى آخره، وبين من يذمها ذماً مطلقاً.

فما بالك بما هو فوق مستوى الماديات فيما يتعلق بإصدار الأحكام على الظواهر الاجتماعية، إصدار الأحكام على الظواهر التربوية، إصدار الأحكام على الأفراد، على المجتمعات؛ في هذه الحالة تجد أن الاعتدال تقل مساحته ويزداد التطرف، سواء في هذه الزاوية أو في تلك الزاوية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

النقد مطلوب حتى نصحح واقعنا كأفراد، وحتى نصحح واقع مجتمعاتنا لابد من النقد، ولابد أن نمارس النقد الذاتي؛ حتى يؤدي دوره وثمرته، فإما أن ننتقد أنفسنا، أو ينتقدنا الآخرون، لكن النقد ينبغي أيضاً أن يكون بموضوعية واتزان، فحين نبالغ في النقد، ويتجاوز النقد حده، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى اليأس.

جيء برجل يشرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، فسبوه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان عليه)، العقوبة الشرعية التي يستحقها أخذها وهي الجلد، حينما يذمونه ويعيبونه ويلعنونه، فإن هذا سيجعل الشيطان يتسلط عليها أكثر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها)، يعني: لا يجمع عليها بين العقوبة الشرعية وعقوبة أخرى، فليقم عليها العقوبة الشرعية التي شرعها الله عز وجل وهي الحد، لكن لا يؤنبها ويلومها ويثرب عليها.

وكذلك نهاهم صلى الله عليه وسلم عن أن يلعنوا هذا الرجل الذي شرب الخمر، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا فيه إعانة للشيطان على أخيهم.

هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المبالغة في ذلك، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم)، فأهلك الناس هو الذي يصل به الحد إلى اليأس من واقع الناس، فيتهمهم بالهلاك.

يقول الإمام الخطابي رحمه الله: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساوئهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا، ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالاً منهم، بما يلحقه من الإثم في عيبه، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم، والله أعلم.