[تعدد مجالات الوقف وتنوع مصارفه]
الوقف عند الفقهاء له مجالات شتى، ومصارف منوعة، فقد يكون وقفاً على الذرية، أو على ابن السبيل، أو طالب العلم، أو ربما طالب علم معين كفقه حنفي أو حنبلي، أو وقف على المجاهدين والمرابطين، ولن يضير المرء أبداً أن يقف شيئاً من ماله على مجال دون غيره مادام يرى أن هذا المجال بحاجة، وأنه أولى من غيره من الأبواب.
وهكذا فنحن نرى من يقف وقته على العبادة والذكر، ودعوة الناس بسمته وزهده، فتراه يقضي سحابة نهاره تالياً لكتاب الله عز وجل، وصائماً، وقانتاً، ومصلياً ومقبلاً على الله سبحانه وتعالى، فإذا رآه الناس ذكروا الله عز وجل، وتذكروا هدي الصالحين والسابقين، وحين يدعو ينفع الله سبحانه وتعالى المسلمين بدعوته.
ونرى من يقف نفسه على إغاثة المحتاج وإعانة المنقطع، ونرى من يقف نفسه على دعوة غير المسلمين إلى دين الله سبحانه وتعالى، وإلى الدخول في السلم كافة، أو من يقف نفسه على إصلاح من قسا قلبه من المسلمين، وتنكب الطريق منهم، فصار جهده وهمه ووقته وتفكيره وحياته كلها مصروفة على دعوة هؤلاء، وعلى وعظهم، وعلى نصحهم، وعلى الأخذ بأيديهم ليسلكوا الطريق المستقيم، ويسيروا في ركاب الصالحين.
ونرى من وقف نفسه على تعاهد النبتة الصالحة، وعلى تعاهد عدة الأمة وذخيرتها، على تعهد الشباب بالتربية والتعليم والتوجيه والدعوة لكتاب الله عز وجل، فثنى ركبتيه في بيت من بيوت الله سبحانه وتعالى يقرئهم كتاب الله عز وجل، ويعظهم بزواجره، ويرغبهم بفضائله، فوقف حياته ووقته على هؤلاء الشبيبة وأولئك الصبية، كل هذا إعداداً لمن ينفع الله سبحانه وتعالى بهم الأمة.
ونرى من وقف نفسه على تعليم العلم الشرعي، فصار همه وحياته حتى أشغله عن سائر ما يتمتع به الناس من مصالح، فلم يعد وقته ملكاً له، وإنما هو ملك للناس، بل لم يعد هو حتى ملكاً لنفسه، فقد أصبح وقفاً لله تعالى.
والآخر الذي وقف حياته على إنكار المنكرات الظاهرة، وهكذا نرى مجالات شتى، وجوانب متعددة كلها تصب في مصب واحد وطريق واحد.
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة).
فلماذا نقسم العدد على أربعين قسمة ضيزى فنختصرها ونجعلها طريقاً واحداً وخصلة واحدة؟! ولماذا نوصد تلك الأبواب التي فتحها لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشرعة؟! وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعدل حجراً أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذٍ وقد زحزح نفسه عن النار).
وهكذا فهي مصارف شتى للوقف، ومنافع متنوعة تسير في منظومة واحدة دون تنافر أو تناقض، فكلٌّ وقف نفسه على باب من أبواب الخير، ولسان حاله يقول كما قال إمام دار الهجرة: كلانا على خير وبر.