ثانياً: عندما نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نجده يولي الأمر عناية فائقة، بدءاً بقوله صلى الله عليه وسلم:(الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، وحينما نتأمل سيرته صلى الله عليه وسلم نجده أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يدعو أقواماً إلى الإسلام، ويسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام برجل مثل عمر بن الخطاب أو من في طبقته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن مثل عمر رضي الله عنه يحمل مؤهلات عالية لو هداه الله عز وجل للإسلام لنفع الله سبحانه وتعالى به، ولكان فيه الخير الكثير، وفعلاً ذاك الرجل الذي كان جباراً في الجاهلية، ذاك الرجل الذي كان يخشى المسلمون ويفرقون من بطشه وكيده، ذاك الرجل الذي كان يعيش في الجاهلية مرحلة من التخلف والضلال كما حكى عن نفسه، بعد أن مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية ونوَّر الله بهذا الإيمان قلبه وبصيرته، أصبح لا يراه الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً آخر، وأصبح فاروقاً يفرق بين الحق والباطل، وقاد هذه الأمة، وهو الذي أطفأ الله على يديه نار المجوسية ووثنيتها وقضى عليها، هو الذي خلف صاحب وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان يقول صلى الله عليه وسلم:(ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر).
ومصعب بن عمير رضي الله عنه يذهب إلى المدينة فيكون مع أسيد بن حضير، فيأتيه سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو لما يسلم بعد، فيقول له أسيد: اتق الله فيه، فهذا رجل إن تبعك لم يتخلف من قومه أحد، فيتقي مصعب الله سبحانه وتعالى ويدخل سعد رضي الله عنه في الإسلام على يد مصعب بن عمير، فماذا كان من سعد بن معاذ؟ كم كان عمر سعد بن معاذ في الإسلام؟ إن سعد بن معاذ قتل بعد غزوة الأحزاب في بني قريظة، فعمره لم يتجاوز ست سنوات في هذا الدين، ومع ذلك كانت له المواقف المحمودة، لقد أطار الله بحكمه رءوس كثير من صناديد الكفر، {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا}[المائدة:٨٢]، سعد بن معاذ هو الذي حكم ذلك الحكم الجليل الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:(حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات)، سعد بن معاذ رضي الله عنه هو الذي قاد قومه وكانت له المواقف المشهودة في السيرة، حتى لما مات اهتز له عرش الرحمن، وهنا فعلاً كان ما قاله أسيد حق: هذا رجل إن تبعك لم يتخلف من قومه أحد، وعندما دخل في الإسلام فعلاً دخل قومه جميعاً في الإسلام، فهو رجل يملك مؤهلات خاصة، رجل من خيار معادن الناس، وكم من رجل دخل في الإسلام ولكنه لم يبل فيه مثل بلاء سعد بن معاذ رضي الله عنه.
على كل حال لسنا بحاجة إلى الاستطراد في ذكر أحداث السيرة، ولكنا عندما نعود بالذاكرة إلى ما نحفظه من أحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد هذا أمراً واضحاً في سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتني بأمثال هؤلاء؛ لأنه يعرف صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء هم الذين ستقوم بهم الأمة.
فهل من قبيل المصادفة مثلاً أن يكون أبو بكر رضي الله عنه هو جليس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم فيه:(لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، وهو الذي كان كثيراً ما يقول صلى الله عليه وسلم فيه:(ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر)، هل كان من قبيل المصادفة أن يكون هؤلاء هم جلساء النبي صلى الله عليه وسلم، أم أن أولئك كانوا قوماً اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم يملكون مؤهلات خاصة تؤهلهم لأن يقوم الإسلام بعد ذلك على أيديهم؟ وعندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت قبائل العرب ظهر أثر هذه التربية، وظهر أثر معادن الناس في موقف أبي بكر، ومن ثم بعد ذلك في موقف عمر رضي الله عنه الذي ساهم في نشر الإسلام وتثبيت قواعده، ثم سائر الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة رضوان الله عليهم.