للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الورع]

الورع معشر الإخوة الكرام مصطلح نبوي شرعي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ والوصية به فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي في وصيته لـ أبي هريرة رضي الله عنه: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).

وأيضاً روى البزار والطبراني في الأوسط والحاكم من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه الحاكم أيضاً من حديث سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع).

إذاً هذه النصوص الصحيحة أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذا اللفظ وهذا المصطلح، فهو إذاً مصطلح شرعي نبوي، وليس أيضاً بالضرورة كما تعلمون في المصطلح أن يرد بنصه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية فلا مشاحة في الاصطلاح.

أما الأدلة على معنى الورع دون لفظه فهي أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث العظيم الجامع الذي جعله جمع من أهل العلم إحدى الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه).

والحديث مشهور في كتب السنة بروايات عدة، ويحفظه الصغير والكبير، وهو قاعدة في التورع مما يشتبه منه، مع أن معنى الورع كما سيأتي يأخذ مدى أبعد من هذا المدى، ودائرة أوسع من هذه الدائرة، والتورع عن المشتبهات والبعد عنها ليس إلا باباً من أبواب الورع.

ومن الأدلة أيضاً على هذا المعنى حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.

وأيضاً جاء وابصة بن معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟ فقال: نعم، قال له صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).

والحديث رواه الإمام أحمد والدارمي، وله شاهد أيضاً عند الإمام أحمد من حديث ثعلبة، وهذا الحديث فيه إيماء وإشارة إلى تلك الحساسية المرهفة التي يملكها عباد الله الصالحون، فصارت نفوسهم تطمئن للبر، وترتاح إليه، وصارت نفوسهم تأنف من المعصية وإن أفتاه الناس وأفتوه.

ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع عما حاك في الصدر، وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين، وإلى حال قلوبهم، التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى.

فتطمئن هذه القلوب للبر، والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور وتردد من الإثم وأسبابه، وحين يفتيها الناس ويفتونها ويبدئون ويعيدون، فإنها لا تطمئن.

إن هذه إنما هي حال القلوب الصادقة، ولهذا هذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصالحين، بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا، فإن كانت قلوبنا تطمئن للبر والصلاح والتقوى، وتشمئز من المعصية والسيئة وتنفر منها، فهي قلوب صالحة بإذن الله.

وإن كانت دون ذلك، فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح.

وهو ليس خطاباً للمخلطين، ليس خطاباً للمعرضين، ليس خطاباً لأولئك الذين ران على قلوبهم، فأصبحت نفوسهم وقلوبهم مأسورة بهواها وشهواتها، فأصبح لا يرى إلا من خلال هذه الزاوية، كم من الناس من يطمئن قلبه ونفسه لمعصية الله سبحانه وتعالى، وإيذاء عباده المؤمنين والمتقين.

بل كم من الناس من انقلبت الموازين لديه، فأصبحت السيئة حسنة، فصار يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بمعصيته وإيذاء عباده، أرأيتم أولئك الذين كانوا يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى، بإيذاء الصالحين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ويرون هذا ديناً وقربة لله سبحانه وتعالى، في حين كان يسلم من شرهم أهل الأوثان والطغيان والضلال.

أترون أولئك أصبحت قلوبهم تملك هذا المقياس، لقد اطمأنت قلوبهم إلى إيذاء عباد الله المتقين، إلى إيذاء خيرة خلق الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتقربون إلى الله عز وجل بذلك، في حين أنهم كانوا يدعون أهل الطغيان والضلال والأوثان.

إذاً هذا المقياس إنما هو لأولئك الصالحين الذين توجهت قلوبهم لله سبحانه وتعالى، فأصبح القلب لا يحب إلا لله سبحانه وتعالى، ول