للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من سلك طريقاً يخدم به الإسلام فلا يجوز أن يحتقر الطرق الأخرى

ثانياً: الإنسان عندما يسلك ميداناً لا يسوغ له أن يحتقر الميدان الآخر، فمثلاً: هذا إنسان سلك طريق الجهاد، فلا يسوغ له أن يقول لغيره: أنت جالس تقرأ وتتعلم مسائل فرعية، والأمة بحاجة للجهاد ورفع السيف، والمسلمون يقتلون وأنت في هذا الميدان حابس نفسك على مسائل فرعية وقضايا دقيقة بين الكتب والمسائل، فأنت إنسان ليس عندك استعداد أن تقدم للإسلام خيراً ولا تضحي بنفسك إلى غير ذلك.

والآخر يقول: لا أنا آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأمنع المنكرات الموجودة وأتصدى لها وأسهر وأتعب وأتحمل إهانات، وأتحمل ما أواجه وأنت متفرغ لمجموعة من الشباب تحفظهم القرآن قد يحفظون وقد لا يحفظون، أو هم أصلاً صالحون بدونك ولكنكم تضيعون الأوقات سدى وإلى غير ذلك.

والآخر يقول: أنا متفرغ للعلم الشرعي، وهذا الدين إنما يكون بالعلم، والدعوة لا تكون إلا بالعلم، وأنتم أناس جهلة، صحيح أنك تجاهد وتأمر المعروف وتنهى عن المنكر لكن عن جهل، وإلى غير ذلك.

وترى كل إنسان أصبح في موقع مهاجم يتراشق وأصحابه، وهذا لا يسوغ أبداً فلا يسوغ أن نحتقر الميادين الأخرى ولا أن ننتقد الآخرين، يا أخي ما دام فلان من الناس قام بهذا الميدان وسد هذه الثغرة في دين الله سبحانه وتعالى فلنقل إنك على باب من أبواب الخير فالزم ما أنت عليه، ونحن على باب آخر، وهذا لا يعني أني أفضل منك أو أنك أفضل مني؛ فكل هذه الأبواب مطلوبة ومرادة للأمة جميعاً.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومنه -أي اختلاف التنوع- ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين.

يعني يكون هذا الاختلاف أن هذه الطرق أصلاً مشروعة وسائغة، فهذا سلك طريقاً والآخر سلك آخر فيحصل بينهم من الخلاف ما يحصل وكلاهما مقبول، وأنت ترى الآن الجدل قائماً حول مناهج الدعوة، ماذا نصنع الآن: هل نعتني بمحاربة البدع والخرافات، أم نعتني بما يسمى مثلاً بالعمل السياسي، أم نعتني بدعوة الضالين والمنحرفين، أم نعتني بجانب الرقائق وتزهيد الناس في الدنيا، أو نعتني بنشر العلم، أو نعتني بإنكار المنكرات؟ وترى كل إنسان يحشد الأدلة والمؤيدات أن هذا هو الطريق الذي لا ينبغي سلوك سواه، وأن الطرق الأخرى كلها تأتي بعدها، فالذي يحارب البدع يقول: عندما أحارب البدع وأقضي على البدع فإن الذي كان يقع في الزنا سيتوب من الزنا؛ لأني حاربت البدع، والذي كان ينشر الأفلام الساقطة كذلك سيتوب، والذي كان يروج المخدرات أيضاً سيتوب، والذي كان يحكم بغير ما أنزل الله سيتوب على عتبته لأني حاربت البدع.

والثاني يقول لك: لا، القضية هي قضية الحكم بغير ما أنزل الله، فإذا قضينا على هذه القضية ستزول تلك الأمور.

والثالث يقول: أهم شيء إنكار المنكرات الظاهرة، وهكذا وكل هذه الميادين مطلوبة، فلا شك أنا بحاجة إلى من يُنكر البدع، بحاجة إلى من يعلم العلم، بحاجة إلى من يجاهد في سبيل الله، بحاجة إلى من ينكر المنكرات وكلها جهود خيّرة ومطلوبة، والجدل الذي يقوم الآن على الساحة الإسلامية أن هذا الميدان أولى، وذاك الميدان أولى كله جدل لا داعي له، ولا يزيد على أن يكون مجرد تراشق، وترف فكري وإهدار لطاقة الأمة فيما لا طائل وراءه، فالأبواب كلها مطلوبة، هذا سلك هذا الميدان، والآخر سلك الميدان الآخر يا أخي أنت إذا كنت ترى فلاناً قصر في هذا الميدان فسد هذه الثغرة، والثالث يأتينا فهو مستعد لهذا الميدان فيرى أن الآخر قصر فيه فيسد هذه الثغرة، وهكذا حتى نسد كل هذه الثغرات.

دعني أضرب لك مثالاً آخر: افترض مثلاً أننا راكبون في السفينة فوقع فيها انفجار فحدثت فيها شقوق وصار يدخل منها الماء، فجاء واحد وسد هذا الثقب، فقال له الثاني: لا يا أخي! سد هذا الثقب، والثالث كذلك فمنطقنا هو هذا المنطق وترى واحد عنده ثقب صغير وجالس بكل جهده وطاقته يسد هذا الثقب ويطلب الجميع كلهم أن يتضافروا على هذا الثقب والسفينة تدخل عليها المياه من كل جانب ومع ذلك يقول: يجب أن نسد هذا الميدان، وإذا سد هذا الميدان فستنجو من الغرق.

أقول: إن هذا هو واقع من يتراشقون بالتهم، وهذا واقع من يحاول أن يختزل ميدان الدعوة، ويختصر ميدان خدمة الأمة وإنقاذ الأمة وخدمة دين الله سبحانه وتعالى بميدان واحد وزاوية واحدة.