للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تقويم الأشخاص والمشروعات والهيئات والجماعات]

المجال الرابع: التقويم، في تقويم الأشخاص كثيراً ما نفتقد الاعتدال، فنحن في الغالب ندور بين مديح مبالغ فيه وثناء مفرط فيه، أو ذم مبالغ فيه، وقلما نعتدل في تقويمنا للأشخاص، فحين يعجبنا شخص نسعى إلى أن نبرر أخطاءه، ونسعى إلى أن نبرر مواقفه، قد يعجبنا إنسان في علمه وتقواه وورعه، قد تجد إنساناً عالماً تقياً ورعاً صالحاً، لكن هذا الإنسان لا يجيد التعامل مع الآخرين ويجفو مع الآخرين؛ بطبيعته وببشريته، فالناس بشر ولا يمكن أن تجد في كل إنسان كل ما تريده، والذي يعتدل في تقويمه لا يحول هذه السمة والسلوك الشخصي إلى حسنة، فيرى أن هذا الجفاء وهذه الغلظة أمر مطلوب حتى يأخذ الناس بالحزم والعزم والجد إلى آخره.

وقد يوجد نموذج آخر، قد يوجد إنسان فيه نوع من الضعف البشري، وإن كان أعطاه الله عز وجل علماً ورأياً وحكمة، فيستسلم للناس ويغير الناس مواقفه وتتغير آراءه ويستجيب لكل من طلب منه موقفاً أو رأياً فيعده الناس وحسن الخلق، نعم هو حسن الخلق، لكنه قد جاوز الاعتدال.

المقصود -أيها الإخوة- أن البشر مهما كانوا ستبقى فيهم سمات البشر، سيبقى في كل إنسان جانب من جوانب القصور، وإذا أخذنا الناس بهذا الأمر وافترضنا البشرية في الناس؛ فإننا لن ننتظر منهم الكمال ولن نحاسبهم على الكمال، وفي المقابل سنضع أخطاءهم في إطارها الطبيعي، وسنضع شخصياتهم في إطارها الطبيعي.

إننا اليوم على مستوى الشخصيات الدعوية أصحبنا نعرف مصطلحاً واحداً هو مصطلح ما نسميه (الشيخ)، فمن يستطيع أن يتحدث أمام الناس، يستطيع أن يكتب للناس، هذا الإنسان نطلق عليه لقب (الشيخ)، وحين يستحق هذا اللقب وهذا الوصف؛ يصبح مؤهلاً لكل شيء، أن يتحدث في كل موضوع، أن يفتي، أن يستشار، أن يتحدث في كل قضية، أن يستشار في كل أمر يعرفه ولا يعرفه، يحسنه أو لا يحسنه، فهذا الأمر ليس صحيحاً، فقد ينبغ إنسان في جانب من الجوانب، قد ينبغ إنسان في ميدان الفقه والفتوى، قد ينبغ إنسان في ميدان الوعظ والتأثير على الناس، قد ينبغ إنسان في ميدان الإصلاح، قد ينبغ إنسان في ميدان الرأي والحكمة، فينبغي أن نضعه في إطاره، ولن يعيبه أن يفقد أمراً آخر مما يملكه الآخرون، وقل مثل ذلك في النقد، فإنك ستجد عند الناس عيوباً، لابد أن تجد عند الناس عيوباً، إما تلك العيوب التي هي من طبيعة البشر، فمن الناس من يكون متعجلاً، ومن الناس من يكون شديد الغضب، فالناس لهم صفات ولهم سمات، وهذه الصفات تترك أثراً على شخصياتهم، وإما تلك العيوب التي هي نتيجة خطأ أنسيه، نتيجة اجتهاد، نتيجة أمر لا يسلم منه البشر، فحين نجد خطأً أو أخطاء عند فلان من الناس فإن هذا لا يعني أن يصبح مثل الشيطان الرجيم لا نذكره إلا بالسوء ولا نتحدث عنه إلا بالسوء.

المقصود -أيها الإخوة- أننا بحاجة إلى الاعتدال في تقويمنا للأشخاص.

أيضاً: في تقويمنا للمشروعات والأعمال كثيراً ما يغيب الاعتدال عنا، فنحن إما أن نقف مع هذا المشروع وهذا العمل مائة في المائة وندافع عن كل جزئية فيه، وإما أن نقف ضده تماماً ونعتبره سوءاً وشراً وأمراً مخالفاً، سمعنا من يتحدث عن تفطير الصائمين في هذا الشهر الذي هو ظاهرة نراها من خير الظواهر في مثل هذا المجتمع، يتحدث عن هذا بأنه إضاعة للمال وأن هذا الأمر لا يجوز إلى غير ذلك، إنه صورة من صور المبالغة، نعم قد يكون للإنسان وجهة نظر في بعض أساليب هذه الأعمال، قد يكون له تحفظ على بعض ما يصاحبها، والناس سيختلفون في الرأي في مثل هذه الأعمال، لكن بهذه الصورة المتطرفة التي تجعلها إضاعة للمال مع أنها تفطير للصائم، والكبد الرطبة فيها أجر؟! والإسلام قد شرع أن يعطى الكفار من الزكاة تأليفاً لهم على الإسلام، فكيف بغيرهم من الناس؟! إنها صور من مجانبة الاعتدال.

وكذلك تقويم الهيئات والجماعات والجهات الدعوية: فاليوم انتشر في الساحة الإسلامية هيئات إسلامية، جمعيات، جماعات، أحزاب، منظمات، ومعظمها يريد الخير، يريد الدعوة، معظمها يغلب عليه الخير، لكنها تتأثر بواقع مجتمعاتها، تتأثر بواقع أولئك الذين يقودونها، فيكون فيها من الضعف والقصور ما يكون فيها، تقويمنا لواقع هذه الهيئات والجماعات لا يكاد يخلو من الغلو، لا يكاد يخلو من المبالغة مدحاً أو قدحاً، وقلما تجد التقويم المعتدل الوسط، فإما أن تجد من يتصيد الأخطاء فيبحث عنها ويصور لك هؤلاء الدعاة إلى الله عز وجل على أنهم جيش من المفسدين الضالين التائهين، وإما أن تجد في الطرف الآخر من يبرر الخطأ ويفسره تفسيراً آخر، فلا هذا ولا ذاك.

إن الاعتدال -أيها الإخوة- كثيراً ما يغيب في تقويمنا، تقويمنا للناس، تقويمنا للأعمال، للمشروعات، للهيئات، للجمعيات وغيرها، والتقويم يحتاج إلى أن يكون معتدلاً فينظر إلى الأمور من كافة جوانبها.