للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آفة سوء الفهم الإلزام به]

سوء الفهم أمر لابد أن يقع المرء فيه لأنه بشر، ولأن المتحدث قد لا يزن حديثه، أو قد يكون حديثه أحياناً ملتبساً، أو مدعاة لسوء الفهم.

فأن نطالب الجميع بالتخلي عن سوء الفهم، أو نحاكم الجميع على سوء الفهم، ونرى أن الجميع يجب أن تصح أفهامهم بنسبة ١٠٠%، أتصور أنه مطلب غير معقول.

فلابد أن يقع المرء في الخطأ في الفهم، لكن متى يكون سوء الفهم آفة؟ ونحن لن نتحدث عن هذه القضية جملة، فلن نتحدث عن سوء الفهم وما يتعلق به، ولكن عن جانب من الجوانب، وعن مرض يحصل كثيراً في الساحة، وسببه سوء الفهم، ومن ثم سيتركز حديثنا حول هذه الظاهرة.

يكون آفة حينما يكون قاعدة يحكم بها على الآخرين، أي: أن أحكم على الآخرين من خلال فهمي لكلماتهم، أو أقوالهم، أو أعمالهم، أو مواقفهم، وتسمع هذه الكلمات التي تعبر عن أعمال القلوب: هو يقصد كذا، يريد كذا، يظهر خلاف ما يريد، يتظاهر بكذا، وكلها أمور تدور حول قضية قلبية، يعني: أننا قد تجاوزنا الظاهر إلى ما يخفيه ويعتقده صاحبنا، فقد أصبحنا نملك وسيلة نستطيع بها أن نحكم على نوايا الآخرين، وأن نطلع على نوايا الآخرين.

إذاً: فحينما يكون قاعدة تجعلني أحاكم الآخرين دائماً إلى ما أفهمه من مواقفهم وأعمالهم وجهودهم، وما يقومون به، فهذه آفة، وحينئذٍ نقول لمن يكون كذلك: لا يسوغ لك أن تحاكم الآخرين إلى فهمك، قد تقول: ها أنت عرضت لي قائمة وأمثلة طويلة من أمور اجتهد فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخطئوا الفهم مع نص شرعي، فكيف لا أخطئ في الفهم أنا.

أقول: نعم، من حقك أن تخطئ الفهم، وبعض الناس عقله لا يؤدي به إلا إلى الفهم السقيم، لكن هذا شيء وأن تجعل فهمك قاعدة تحاكم الآخرين إليها شيء آخر.

حين أنقل عن الآخرين بناء على فهمي أيضاً هذا خطأ، وحينما أنقل يجب أن أكون دقيقاً في النقل، فأقول: قال: كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، وفهمت أنا أنه يقصد كذا، أو أنه يريد كذا، فمن حقك أن تقول هذا الكلام، لكن لا تنقل عن الآخرين شيئاً فتقول: إن فلان يقول كذا، أو إن فلان يعتقد كذا، أو يريد كذا، وتقتصر على هذا الكلام، ومعيار النقل وأساس النقل هو فهمك أنت.

وبعض الناس عنده منطق عجيب، مرة كان يناقشني شاب في مقال كتبته، فقال لي: إن الناس الذين تقصدهم في هذا الكلام عندهم كذا وكذا، فقلت له: يا أخي! أنا لا أقصد أحداً بعينه، وهذا وهم في ذهنك، فيقول: بل أنت تقصد! يعني: أنت الآن تخبرني بما أقصد وبما لا أقصد وبما أريد، إذا كنت أنا متهماً عندك بالكذب فليس هناك داع أن تناقشني، لأنني أصبحت كذاباً! فأنت من حقك أن تفهم أني أقصد شخصاً، لكن يجب أن يبقى فهماً لك ولا تلزمني به، لأنه حينما يكون سوء الفهم وسيلة للإلزام يصبح آفة، وسنأتي إلى الحديث عن الإلزام.