الأمر التاسع: أن الداعية إلى الله عز وجل وطالب العلم هو أحوج الناس إلى التربية الإيمانية؛ لأن الإيمان بالله هو المعين على أمور الدعوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيه الوحي كان يتحنث في غار حراء، ويتعبد صلى الله عليه وسلم الليالي ذوات العدد؛ لأنه كان أمام تحمل أمانة الدعوة ونشرها، فكان يحتاج إلى الصلة بالله عز وجل والإيمان به تبارك وتعالى؛ حتى يكون ذلك خير معين له على القيام بأعباء هذه الدعوة، ويقول الله عز وجل له:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:١ - ٥].
فهذا الأمر بقيام الليل، والأمر بالاجتهاد في الطاعة، كل هذا لأنه تعالى سيلقي عليه قولاً ثقيلاً.
قال تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:٦].
فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ زاداً له من ناشئة الليل، أن يأخذ زاداً له من قيام الليل، ومن التسبيح في النهار وذكر الله عز وجل؛ لأنه سيلقي عليه قولاً ثقيلاً وهو القرآن، وسيتحمل صلى الله عليه وسلم عبء الدعوة إلى هذا القرآن.
الأمر الثاني: أن الداعية إلى الله عز وجل وطالب العلم عرضة للآفات، عرضة للإعجاب بالنفس، عرضة للرياء، عرضة لأن يسير وراء بريق الشهرة، والذي يعينه ويحميه من ذلك هو الإيمان بالله عز وجل، الذي يجعله يشعر أن ما قدم كله إنما هو لله تبارك وتعالى، والذي يجعله يشعر بذنوبه وتقصيره في جنب الله سبحانه وتعالى، والذي يجعله يشعر أن ما قدم لن ينجيه إلا برحمة الله تبارك وتعالى.
الأمر الثالث: أن الداعية يدعو الناس للإيمان بالله عز وجل، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كان المرء فاقداً للشيء فكيف يستطيع أن يعطيه؟! إذا كان يحتاج أن يربي الناس على الإيمان بالله عز وجل وتقوى الله، وهو فاقد الإيمان والتقوى، وإذا كان يريد أن ينهى الناس عن معاصي الله عز وجل، وإذا كان يريد أن يأمر الناس بطاعة الله عز وجل وهو يعاني من الجفاف في قلبه، يعاني من الضعف في إيمانه، يعاني من الخواء في هذا الجانب، فكيف يستطيع أن يحقق هذا الأمر؟! قال تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}[البقرة:٤٤]، وقال تعالى:{لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصف:٢ - ٣].
الأمر الرابع: أن الذي يدعو إلى الله عز وجل هو من أكثر الناس عرضة للابتلاء والامتحان، والذي يعينه على الثبات على الابتلاء هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولهذا كلما ذكر الله عز وجل في كتابه ما يكيد الكفار به النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بالصبر، وعقب على ذلك بالوصية بالتسبيح أو الصلاة أو التوجه إلى الله عز وجل، ولا تكاد تجد أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يواجهه من أذى ومن ابتلاء إلا ويعقب بالأمر بالتسبيح والأمر بالصلاة وطاعة الله عز وجل؛ لأن هذا هو الزاد المعين على الصبر، يقول تبارك وتعالى:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}[طه:١٣٠]، ويقول:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}[ق:٣٩ - ٤٠]، ويقول:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}[المزمل:١٠]، ويقول:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}[الإنسان:٢٥ - ٢٦].
والآيات في ذلك كثيرة، ومن استعرض الآيات في السور المكية في سورة هود، والإسراء، وطه، والإنسان، والمزمل وغيرها سيجد أنه يعقب الأمر بالصبر -إما الصبر على مشقة الدعوة، أو الصبر على محاولة الكافرين إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم- يعقب بالأمر بالتسبيح، والأمر بالصلاة، والأمر بقيام الليل؛ لأن من يدعو إلى الله عز وجل عرضة للابتلاء، وعرضة لأن يواجه، والذي يعينه بعد توفيق الله عز وجل إنما هو إيمانه وصلته بالله تبارك وتعالى.