الحج يربط المسلم ويذكره بنبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فهو الذي بنى البيت، وهو الذي أذن في الناس بالحج فجاءوا رجالاً وركباناً على كل ضامر من كل فج عميق يستجيبون لهذا النداء، وهو الذي نبع ماء زمزم لابنه إسماعيل حين تركه وودعه وأمه، فنادته أمه قائلة: إلى من تتركنا إلى من تتركنا؟ فلا يجيب إبراهيم النداء ولا يلتفت إليها، ثم تسأله فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم فتقول: إنه لن يضيعنا.
وتبقى تلك المرأة مع ولدها إسماعيل في واد غير ذي زرع، وحين يفارقهم إبراهيم يرفع يديه إلى السماء ويدعو الله عز وجل:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}[إبراهيم:٣٥ - ٣٧] وتأتي حين يجوع ولدها ويبكي، تذهب ذات اليمين وذات الشمال، فتصعد الصفا وتصعد المروة وتتردد هنا وهناك حتى يمن الله عز وجل عليه بهذا الماء.
إن المسلم هناك وهو يطوف بالبيت، ويصلي خلف المقام، ويسعى بين الصفا والمروة، ويشرب ماء زمزم، وهو يتنقل بين هذه المناسك إنه يشعر بأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإبراهيم عليه السلام، وهذا يعني أولاً: أن هذا يشعره بالانتماء والولاء لإبراهيم عليه السلام، وللحنيفية التي جاء بها، إن إبراهيم هو الذي دعا الله عز وجل:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}[البقرة:١٢٩] إن إبراهيم هو الذي سمانا المسلمين من قبل، هو الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من بعده أن تتأسى به وأن تنتمي إليه.
ما بالنا نرى هذا المسلم الذي يأتي إلى البيت والذي يشعره بالولاء لإبراهيم، نراه حين يعود إلى بلاده يوزع ولاءه ذات اليمين وذات الشمال، فهو تارة ينتمي لاتجاه قومي، وتارة لاتجاه وطني، تارة يتبنى منهجاً علمانياً، تارة يتبنى منهجاً يعارض الملة الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام.
إنه هو الذي كان يطوف بالبيت وكان يصلي خلف المقام، وكان يطوف بين الصفا والمروة، هو الذي لا يستحي بعد ذلك أن يُعلن أمام الناس أنه قومي أو وطني أو علماني، إنه هو الذي يستقبل القبلة البيت الذي بناه إبراهيم كل يوم خمس مرات ويردد في صلاته: كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنه هو هو الذي يوزع ولاءه وانتماءه، ولهذا يأمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تجهر بها صريحة وتعلنها واضحة في وجه من يدعوها لمنهج منحرف:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[البقرة:١٣٥].
ولئن كان الله عز وجل قد أمر المخاطبين بها لأول مرة أن يقولوها في وجه من يدعوهم لليهودية، أو من يدعوهم للنصرانية، فهو أمر لمن يدعوهم بعد ذلك لنحلة أرضية أو مذهب مادي، إن أمة الإسلام حزب واحد، وجماعة واحدة، وأمة واحدة لا يعرف فيها المسلم الولاء إلا لمنهج واضح المعالم، ذاك المنهج الذي اختصه إبراهيم عليه السلام:{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[البقرة:١٣٥].