[من الطاقات المعطلة في المجتمع كثير من طلاب العلم]
ثم أنتقل إلى طبقات أخرى قد تكون طبعاً داخلة تحت هذه الطبقة التي أشرت إليها، ومن أهم هذه الطبقات طبقة من طلاب العلم، فطبقة كبيرة من طلاب العلم للأسف هم من الطاقات المعطلة، والأمة أحوج ما تكون إليهم، وهنا أذكر بما قلته قبل قليل، فلا يعني هذا أبداً أنني أتهم طلاب العلم أنهم مقصرون، بل إننا نأنس بحديثهم، والجلوس إليهم، والاستفادة منهم، ونحن جميعاً عالة عليهم.
ولكن أقول: هناك فئة من طلاب العلم بقي الخير قاصراً عنده على نفسه، ويتعلل بأنه عاجز، وبأنه ما عنده قدرات، وبأن واقع المجتمع لا يتطلب ذلك إلى غير ذلك، فيتعلل بعلل وأصناف ووسائل شتى سبق أن تحدثت عنها في حديث سابق، وفي محاضرة سابقة؛ لذا لا أحتاج إلى العودة إليها، كنت تحدثت عنها في محاضرة بعنوان: فتن التهرب من المسئولية.
وحتى نأخذ صورة فقط عن حجم هذه الطاقات فإنك عندما تنظر إحصائيات خريجي الدراسات الشرعية فإنك تصاب بذهول، هذه الأرقام الهائلة في مقابل الجهود المبذولة الآن، وفي مقابل فعلاً مدى انتفاع الناس بها.
فمثلاً: خريجي الدراسات الشرعية في جامعة الإمام وحدها من عام ٩٢هـ إلى عام ١٤٠٩هـ (٩٦٥٦) طالباً، فهؤلاء لم يتخرجوا من هذه الجامعة في كافة الدراسات، وإنما من الدراسات الشرعية في المرحلة الجامعية وحدها من عام ٩٢هـ إلى عام ١٤٠٩هـ فقط، وانظر ما قبل عام ٩٢هـ، وما بعد عام ١٤٠٩هـ من أعوام، فهذه الأفواج الهائلة من خريجي الدراسات الشرعية أين هم؟ وجامعة أم القرى من عام ١٤٠١هـ - ١٤٠٢هـ إلى عام ١٤٠٩هـ بلغ أيضاً عدد خريجي الدراسات الشرعية (٤٠٢٧) طالباً، وخذ بعد ذلك سائر الخريجين من أقسام الدراسات الإسلامية والدراسات الشرعية في سائر الجامعات.
وخذ بعد ذلك طلبة العلم وخريجي حلق المساجد الذين قد يكون الكثير منهم يفوق هؤلاء الخريجين، وقد تقول لي مثلاً: إن الكثير من خريجي الدراسات الشرعية ليسوا على المستوى المطلوب، وقد تقول: إنهم ضعاف، وقد تقول: فيهم كذا وكذا، لكن هذا خلاف الأصل، فالأصل أن يكون طالب الدراسات الشرعية خاصة في هذا العصر يشعر بدوره، ويرى أثر العلم عليه، ومهما كان فعلى الأقل قد أتيحت له فرصة لدراسة العلم الشرعي لم تتح لغيره، وأما كونه مهملاً، وكونه مقصراً، فهذا أصلاً مظهر من مظاهر تعطل الطاقات.
فالمفترض أن صاحب الدراسات الشرعية سواء كان في المرحلة الثانوية، أو المرحلة الجامعية، أو المراحل العليا، المفترض ألا يفارقه هذا الشعور: أن يرى أن الناس بحاجة ماسة إلى علمه.
وعندما تنتقل مرحلة أخرى أيضاً إلى قطاع أكبر مثلاً فستجد أن خريجي مثلاً المعهد العالي للقضاء، والمعهد العالي للدعوة الإسلامية، وهو يمنح درجات عالية: الماجستير والدكتوراه، في الفترة نفسها (٧٣١) طالباً هؤلاء أصحاب تخصصات عليا في الدراسات الشرعية، ناهيك عمن يأخذ أو يحصل على الشهادات العليا من غيرها مثلاً من كليات الجامعة، أو من الجامعات الأخرى، أو ممن هم -كما قلت- رواد المساجد الذين الكثير منهم أفضل بكثير من حملة الشهادات العالية، فأين هذا الرقم الهائل؟ وأين أثرهم في الواقع؟ وأساتذة ثلاثة جامعات فقط: أساتذة الدراسات الشرعية في جامعة الإمام، وجامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية من السعوديين وحدهم في عام ١٤٠٩هـ بلغ عددهم (٩٠٦)، وهؤلاء لا شك أنهم على مستوى أعلى منا جميعاً، أعلى منا نحن الذين نتحدث عنهم، فنحن -كما قلت- لا نوجه التهمة، ولا نؤيد هذا المنطق أن نوجه التهم للناس بالتقصير والإهمال، لكن أقول: عندما تنظر إلى هذه الأرقام وغيرها، وتنظر إلى الجهود المبذولة: الدروس العلمية في المساجد، والمحاضرات، والواجبات المنوطة بهؤلاء، تتساءل أين البقية؟ ولا أبالغ أيها الإخوة! إذا قلت: إنه لو عمل ربع هذه الطاقات فقط لتغير الأمر، فتجد الآن مثلاً عندما يكون لأحد الإخوة قدر ضئيل من العلم، ومستواه الفكري قدراته ضئيلة ومحدودة، فبمجرد أن تظهر له محاضرة أو محاضرتان في التسجيلات، وأصبحت أشرطته تتداول، إلا تنهال عليه الطلبات الهائلة التي لا يستطيع حتى أن يوفق بينها.
وأقول أيها الإخوة: لو أن فقط هذا الصنف من المحاضرين تفرغ لنشاط المحاضرات وحدها، وتفرغ لتلبية الطلبات التي ترد عليه لم يستطع أن يلبي جميع هذه الطلبات، فكيف به وهو منوط به أعمال أخرى كثيرة، ناهيك عن ظروفه ومشاغله الخاصة.
أين البقية؟ لو كان كل واحد من هؤلاء من طلبة العلم يشعر بدوره وواجبه، ويقوم بجهد ولو كان ضئيلاً لتغيرت الصورة، ولخف العبء على أولئك الذين -وأنا أولهم- يعرفون أنهم ليسوا أهلاً لترقي مثل هذه المراقي أو هذه المنابر التي نتحدث من خلالها، وأرى أنه لو قام بعض هؤلاء الأكفاء بواجبهم لما استطعنا أن نجد لنا مكاناً في مثل هذه المنابر، ولبحثنا عن مكان آخر نستطيع أن نقدم منه خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، لكن الإنسان عندما يجد الساحة فارغة يرى أنه غير معذور إذا لم يدل بدلوه.