إن هناك مسائل قد جاءت بها النصوص فهي ظاهرة واضحة، لا يعذر أحد بخلافها، وهذه بلا شك لا يسوغ أن تجعل ميداناً للجدل واللغط، وينبغي أن يخضع لها الدعاة ويخضع لها المسلمون أجمع، لكن ثمة قضايا هي من مسائل الاجتهاد، وقضايا لم يرد فيها نصوص قاطعة، ولهذا فهي تحتمل أن تختلف فيها الآراء والاجتهادات، وما دام أنه ليس في المسألة نص ظاهر يجب على المسلمين قبوله فالأمر واسع في ذلك، ويجوز فيه اجتهاد الدعاة والمصلحين، ويجوز لهم أن يتلمسوا ما يرون أنه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع وأقرب إلى امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيجتهدون في تحقيقه قدر الإمكان، وما يهديهم إليه اجتهادهم يسلكونه ثم يعذرون الآخرين، ولا شك أن من أخطأ في مسائل الاجتهاد فهو معذور، وهذا منهج سلف الأمة، بل إن الذي يقرنون بين الخطأ والإثم والضلال هم أهل البدع كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن من كتبه، وأهل البدع هم الذين يحولون مسائل الاجتهاد إلى مسائل يفرقون فيها بين الأمة، وإلى مسائل يؤثمون بها المخالف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، وكم هي المسائل التي اختلف فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تحول هذه المسائل إلى منهج يخطأ من خالفه.
إننا نرى الآن في عصرنا خلافاً حول قضايا مستجدة ربما كانت محلاً ومجالاً وميداناً للخلاف، ثم نرى من يحول هذه القضايا إلى منهج، ويجعل هذه القضايا معياراً للولاء والبراء، ويجعل هذه القضايا علامة على سلامة المنهج، ويجعل الإخلال بها علامة على الانحراف عن المنهج، ومن أبرز ذلك الخلاف في بعض وسائل الدعوة، فوسائل الدعوة المعاصرة لا شك أنه يحصل فيها خلاف كثير باعتبار أنها نوازل وقضايا طارئة، ولم يتفق فيها العلماء المعاصرون على رأي موحد، فلماذا تحول هذه المسائل إلى قضايا من أسس المنهج، وتجعل هذه المسائل علامة على أن من قال بها فهو من أهل المنهج الصحيح، ومن خالفها فهو من أهل المنهج المنحرف المبتدع؟ ولماذا لا يسعنا الخلاف فيها؟ نعم قد يرى فلان من الناس أنه لا يسعه إلا هذا القول، وقد يرى أنه يدين الله تبارك وتعالى بهذا القول، لكنه حين يلزم نفسه بهذا الاجتهاد ويقرره ويدعو الناس إليه فهذا شيء، وأن تحول هذه المسائل إلى أصول وإلى منهج يضلل من خالف فيه فهذا شيء آخر؛ لأننا حين نقرر هذا فمعناه أن يكون لدينا من المناهج بقدر ما لدينا من الدعاة، ويكون لدينا من الطرق والوسائل بقدر ما لدينا من الأفراد، فلا يستقيم على كل منهج إلا فرد واحد، لأنك لن تجد رجلين مهما كان وجه التقارب بينهما إلا ويختلفان في قضية من القضايا.