الشاهد الرابع: إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، ففي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق) وهذا يعني أن الخلق له منزلة عظيمة في دين الله، إن الخلق والسلوك قد يأتي أحياناً لدى الكثير من المسلمين، بل لدى بعض طلبة العلم في مرتبة متأخرة، ويشعر بعض هؤلاء أن مجرد حفظ المسائل العلمية وإتقانها هو وحده ما يحتاج إليه طالب العلم! وحين يأتي الحديث عن الخلق وعن الهدي والسمت والسلوك يشعر هؤلاء أن هذا حديث الوعّاظ، وأن هذا حديث ينبغي أن يوجه لعامة الناس، وأما طلبة العلم فينبغي ألا يحدثوا إلا بقال فلان ورأى فلان، وفي المسألة وجهان، أو ثلاثة أقوال، وهكذا.
قد يتصور البعض من طلبة العلم أيها الإخوة أن الحديث في مثل هذه المسائل هو وحده الحديث الذي يعنيه، وهو الحديث الذي يهمهم، وهو مجال لا يمكن أن يقلل أحد من شأنه أو يغض منه، لكن أن نتصور أن أبواب الخلق والأدب والسلوك ليس من شأننا أو أنه قضية ثانوية، أو أنه قضية يزج بها الحديث فإن هذا خلاف المنهج الذي كان عليه سلف الأمة، وقد كان أحدهم يرحل في الأدب الواحد السنة والسنتين، وكانوا يتعلمون الأدب كما يتعلمون الحديث، وكان أحدهم يقول: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودلّه، ويقول ابن وهب رحمه الله: ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه، وكانوا يأتون طالب العلم بوصية مشهورة يقولون فيها: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد بل إن في تصانيفهم المتقدمة ما يدل على عظم هذه القضية، أليسوا قد صنفوا في أدب العالم والمتعلم وأدب طالب العلم وما ينبغي له كتباً مستقلة، وأدرجوا ذلك ضمن كتب الحديث وكتب الآداب، وهي كثيرة تلك الكتب التي صنفها أولئك المتقدمون من سلف الأمة، وما كان أولئك يعانون من أوقات لا يدرون بم يشغلونها، ولا يعانون من الإسهال الفكري فيريدون أن يكتبوا ما عنّ لهم، إنما كانت عنايتهم بذلك دليلاً على أهمية هذا الأمر وعلو شأنه في دين الله عز وجل، كيف ولا وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، فما دام صلى الله عليه وسلم قد بُعث ليتمم صالح الأخلاق فلا بد أن تكون سيرته وهديه وسمته صلى الله عليه وسلم ناطقة بذلك، وهاهي سيرته وسنته تشهد بذلك لكل من قرأها وتصفحها.