للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاعتدال سنة الله في خلقه]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى في هذه الليلة المباركة أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال ويجعلنا وإياكم ممن وفق لصيام هذا الشهر وقيامه إيماناً واحتساباً؛ إنه سميع مجيب.

أيها الإخوة الكرام! الاعتدال هو سنة الله تعالى في خلقه، إن هذا الخلق كله قائم على هذه السنة، على سنة الاعتدال، ولو تأملت هذه الظاهرة في مظاهر هذا الخلق وسعيت إلى أن تحصي أفرادها وأمثلتها لضاق بك المقام.

إن هذه الشمس التي تضيء للناس لو اقتربت من الأرض أكثر مما هي عليه لأحرقت الناس، وأحرقت هذه الأرض، ولو ابتعدت لتحولت الأرض إلى جليد، والقمر الذي يضيء في الليالي المقمرة ويتغزل الشعراء به ويهتفون، ويشبهون به من يصفونه بالجمال، لو زاد ضوؤه وصار كضوء الشمس لتحول الليل إلى نهار، ولغابت هذه الحكمة، فالله تبارك وتعالى جعل الليل سكناً، وجعل النهار معاشاً، وهكذا لو تأملت في كل مظاهر خلق الله عز وجل لرأيت أن ذلك كله قائم على الاعتدال، حتى ما يحبه الناس ويسعون إليه ويفرحون به له قدر إذا جاوزه صار منفراً، إن الناس يحبون الجمال ويسعون إليه وربما أنفقوا عليه مبالغ باهضة، لكن هذا الجمال له قدر إذا جاوزه صار مذموماً، فاللوحة الجميلة التي يعتني بها الرسام لو زاد فيها في نسبة الألوان أو في بعض العناصر التي يعتبر الناس أنها منطلق الجمال لتحولت إلى منظر قبيح.

وبياض البشرة يعده الناس جمالاً لمن أوتوا هذه الصفة، لكنه إذا زاد تحول إلى برص ولون منفر، ولا يصلح الناس طعامهم إلا بالملح أو بالسكر فيما اعتادوا أن يتناولوه حلواً، وبدونه لا يصلح الطعام، لكن هذا أيضاً حين يزيد عن قدره يصبح ممجوجاً.

والناس في شدة الحر يلجئون إلى التبريد ويسعون إليه، وإذا زاد عن قدره أصبح مؤذياً، ويشربون الماء البارد، وإذا زاد عن قدره صار مؤذياً، وفي شدة البرد يلجئون إلى أجهزة التدفئة يغتسلون ويستحمون بالماء الدافئ، وحين يزيد عن قدره يصبح مؤذياً.

وهكذا -أيها الإخوة- لو بقينا نتحدث عن مظاهر الاعتدال في هذا الخلق لضاق بنا المقام، فكل ما يحبه الناس ويسعون إليه ويريدونه، بل ربما يدفعون فيه المبالغ الباهضة ينبغي أن يبقى بقدر، فإذا جاوز هذا القدر تحول إلى أمر ينفر الناس منه، بل يسعون إلى الاستشفاء منه.