[دوران التفاضل يوم القيامة على أساس الإيمان]
الأمر الثالث: أن الناس يتفاوتون يوم القيامة على أساس الإيمان بالله عز وجل، على أساس إيمانهم وصلتهم بالله تبارك وتعالى، فهم -أولاً- يتفاوتون في المرور على الصراط كما تعرفون في النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يؤتون نوراً على قدر إيمانهم، بل في كتاب الله عز وجل يقول تبارك وتعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:١٢].
إذاً: هذه الآية أخبر الله عز وجل فيها أنهم يوم القيامة {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:٨]، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهذا النور إنما يؤتونه على أساس الإيمان، ويتفاوت هذا النور، فمنهم من نوره مد البصر، ومنهم من نوره دون ذلك، ومنهم من نوره بين قدميه، ومنهم من ينطفئ تارة ويضيء تارة.
إذاً: فالعبور على أساس الصراط إنما يتفاوت على حسب الإيمان، فهم -أولاً- يؤتون نوراً على هذا الصراط المظلم على أساس إيمانهم، فعلى قدر إيمان المرء يعطى النور على الصراط، وهي قضية متلازمة، فالله عز وجل أمر عباده في الدنيا أن يسيروا على صراطه المستقيم فقال تبارك وتعالى آمراً إياهم بسؤاله الهداية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:١٥٣]، فأمر الله عز وجل الناس أن يسيروا على الصراط المستقيم في الدنيا، والمرء لا يستطيع أن يبصر الصراط إلا بالنور، فيبصر صراطاً مستقيماً في الدنيا بنور الإيمان، فكلما قوي إيمان المرء في الدنيا أعطاه الله عز وجل بصيرة يبصر بها الصراط أمامه حتى لا يضل ولا يزيغ، فيصبح يرى الطريق أمامه واضحاً جلياً، وإنما يلبس على المرء ويضل بسبب إعراضه كما قال تبارك وتعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:١١٠ - ١١١] إلى آخر الآيات.
فيخبر تبارك وتعالى أن هؤلاء -كما أنهم أعرضوا أول مرة- قلب الله أفئدتهم وأبصارهم، فصار الإيمان مستحيلاً لديهم، ولو أنزل الله عز وجل الملائكة، ولو كلمهم الموتى، والمقصود هنا: أن السبب في إضلالهم هو أنهم لم يؤمنوا أول مرة.
وأيضاً في آية أخرى يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:٢٨]، وهذه الآية ذكرت في سورة الحديد، وفي السورة نفسها ذكر الحديث عن بعض ما يكون على الصراط، فأخبر الله عز وجل أن المؤمنين إذا اتقوا وآمنوا أعطاهم نوراً يمشون به في الدنيا، فالإنسان يسير على صراط الدنيا يحتاج إلى أن يتضح له الطريق، فيحتاج إلى النور الذي يضيء له الطريق، وهو الإيمان الذي ينير له الطريق، فيجعل الله له في هذا الإيمان نوراً يبصر به، ويرى به الحق، ويوم القيامة يعطى نوراً على الصراط في الدار الآخرة كما أعطي هذا النور، فعلى قدر الإيمان على هذا الصراط، ووضوح الأمر لديه يؤتى نوراً يوم القيامة، وعلى قدر ثباته على صراط الدنيا يكون ثباته على الصراط يوم القيامة.
فهم -إذاً- يتفاوتون على الصراط على أساس النور الذي يعطون إياه، وهم يتفاوتون في سرعة مرورهم على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح وهكذا، وكل هذا مداره على أساس الإيمان.
قلنا: إنهم يتفاوتون في المرور على الصراط على أساس الإيمان، ويتفاضل -أيضاً- أهل الجنة فيما بينهم وإن دخلوا الجنة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة، كما تراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم)، فهو ينظر إلى منازل من سبقه كما ينظر الإنسان إلى الكوكب من شدة التفاوت بينهم في هذه المنازل.
(قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.
قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
هذا الحديث في الصحيحين يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً في الجنة في الدرجات، وأن أولئك الذين رزقهم الله عز وجل هذه المنازل التي يتراءاها الناس كما يتراءون الغرف، أنهم هم أولئك الذين آمنوا بالآخرة وصدقوا المرسلين.
إذاً: فعلى قدر إيمان المؤمنين تتفاوت منازلهم في الجنة، حتى لو دخلوا الجنة، فهم يتفاوتون في الجنة على أساس الإيمان.
كما أن العصاة من الموحدين -كما تعلمون- يبقون في النار ثم يخرجون منها، فيقول الله عز وجل: (