للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج

أول خطأ من هذه الأخطاء: اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج.

إن هذا الدين واضح لا لبس فيه ولا غموض، والعبودية في الناس إنما هي لله تبارك وتعالى، والاتباع إنما هو لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يوجد أحد في الأمة صغر أم كبر يتوجب على الأمة كلها أن تصدر عن رأيه، وأن تدين الله باجتهاداته وآرائه، هذه قضية بدهية لا يجادل فيها مسلم، ولا يكابر فيها إلا مكابر، إن الأئمة الأعلام والرجال الكبار لهم شأنهم ولهم قيمتهم، ولهم اعتبارهم ووزنهم، ولا ينبغي أن تسفه آراؤهم ولا أن تهان منزلتهم ومكانتهم، ولا يجوز أن يدعى إلى إسقاط مثل أولئك الرموز الذين تفتقر إليهم الأمة، لكن هذا شيء وأن تحول أقوالهم إلى حجة تلزم الأمة كلها بقبولها شيء آخر.

ومن ادعى هذا الادعاء فنقول له: أعطنا نصاً من كتاب الله أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو كلاماً لإمام معتبر من أئمة أهل السنة يرى أن الأمة ملزمة برأي فلان من الناس، لا سبيل إلى ذلك، بل هذا هو عنوان الابتداع، وهذه أمارة من أمارات الإعراض عن المنهج، فمن نصب شخصاً أياً كان، فوالى على موالاته، وعادى على معاداته، وجعل كلامه برهاناً على الحق والباطل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأئمة الأعلام، وهم مصابيح الدجى ومنارات الهدى كان أولئك رضوان الله عليهم يرون أن آراءهم وأن اجتهاداتهم ليست ملزمة للأمة.

فها هو ابن عباس رضي الله عنه يقول في شأن رجلين من أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هما أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس يوشكون أن يهلكوا؛ أقول لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون: قال أبو بكر وعمر، نعم إن رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأجل قول فرد من الناس ولو كان حتى من أولئك الذين اختارهم الله تبارك وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم واختارهم تبارك وتعالى ليكونوا فرط هذه الأمة وقدوة هذه الأمة، إن هذا الأمر سبب للهلاك، وسبب للانحراف؛ فالأمة لم تتعبد إلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أما آراء الرجال أيّاً كانوا وفي أي عصر وفي أي زمان وفي أي مكان فينبغي أن تعرض على ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذاً فلا يسوغ بحال أن نجعل كلام فلان أو فلان من الناس مهما علا قدره وارتفع شأنه أن نجعله هو المنهج، فضلاً عن أن نتهم من خالفه في اجتهاد أو في موقف أو في رأي أنه قد خالف المنهج، وأنه قد انحرف عن المنهج وتنكب الطريق، والأمة إنما هي متعبدة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا غير، ولهذا كان سلف الأمة والمصلحون يشتكون من هذا العائق الذي يطرحه الكثير من الناس في وجوههم، كما قال أحدهم: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك وهكذا كان أولئك يعترضون تارة بقول أشهب، وتارة بقول غيره، ثم يقول: فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك نعم إن ذكرت لهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن مالكاً إنما ترك هذا الحديث لأنه قد أتاه حجة وبرهان.

وإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعاً أنت قرن مماحك فالمنطق هنا هو نفسه، والشكوى هي ذات الشكوى التي يطرحها كل مصلح في كل زمان حين يصدم بهذا الحاجز، وهو حاجز التقليد، وتعبيد الناس لآراء الرجال.