للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تزاحم الاهتمامات]

خامساً: التزاحم.

فتتزاحم هذه الاهتمامات؛ لأن الإنسان عنده مساحة معينة وقدر معين لا يتسع إلا لطاقة معينة، وإذا تزاحمت أخرجت ما سواها.

فمثلاً هذا الكأس أريد أن أضع فيه خليطاً؛ سأضع فيه مثلاً عصير برتقال، وعصير ليمون، وعصير موز، وعصير تفاح، وماء، فيصير خليطاً من خمسة مركبات، فإذا زاد عصير البرتقال سيكون على حساب غيره، أو زاد عصير الليمون سيكون على حساب غيره، فلابد أن تكون بنسب متوازنة حتى لا يطغى شيء على شيء آخر.

وانظر إلى تفكيرك واهتمامك، فمثلاً اهتممت بشيء معين، وليكن الاهتمام الرياضي، فالاهتمام الرياضي أخذ مساحة من تفكيرك، ووقتك، وتصوراتك، وولائك، وعلاقتك، وهذا لابد أن يكون على حساب غيره قطعاً؛ لأنك تفكر في هذه القضية، ولهذا لن تفكر في إصلاح نفسك، ولن تفكر في ذنوبك ومعاصيك، ولن تفكر في العلم الشرعي، أو حفظ القرآن، أو غير ذلك، وإنما سيسيطر عليك هذا الاهتمام.

وكلما دخل اهتمام آخر أخذ مساحة، واهتمام ثاني واهتمام ثالث، ولهذا تجد دائماً أصحاب هذه الاهتمامات من الناس الفارغين، ولا يمكن أن تجد رجل أعمال مشغول وقته كله بجمع الطوابع، أو الفن التشكيلي، أو هواية رياضية أو غيرها؛ لأنه لا يجد وقتاً أصلاً لهذه الاهتمامات، ولا لهذه الأمور، فهو مشغول بشيء آخر.

فهذه تفيدك أنت في عدة أمور، فإذا عرفت أن الاهتمامات لابد أن تتزاحم، ولا يمكن أبداً أن تجمع هذا مع ذاك مع الآخر.

أما أولاً: فلأن المساحة التي يمكن أن تشغلها الاهتمامات مساحة واحدة ولا تقبل التوسعة، ولهذا إذا دخل شيء فسيكون على حساب شيء آخر.

وأما ثانياً: فلأنها متناقضة، فهناك شيء يؤثر على الشيء الآخر، فمثلاً الإنسان الذي يهتم بالشهوة هذا يناقض الاهتمام بالعلم، وحفظ القرآن، أو إصلاح النفس، فصارت شهوته في هذا الأمر، ولم تعد شهوته في تحصيل العلم، ولا شهوته فيما يرضي الله عز وجل، والآخر الذي هوايته تلك، والثاني والثالث والرابع.

إذاً: فأنت عندما تعرف أنها متزاحمة لابد أن تكون بخيلاً فلا تعطي اهتماماً بأي شيء إلا بعدما تراجع حساباتك؛ لأنه يجب أن تعرف أنك عندما تدخل أي شيء في دائرة اهتماماتك فسيشغل مساحة مهمة أنت تحتاج إليها، ولكن فكر هل يستحق أن تدخله في القائمة أو لا يستحق؟ فإذا كان لا يستحق اتركه في الخارج.

وهناك شيء آخر قلناه وهو: الاهتمامات المتناقضة.

فإذا كان هذا الشيء يناقض الشيء الثاني، فمثلاً لا يمكن أن تجعل في هذا الإناء السكر والملح معاً؛ لأنهما متناقضان، ولهذا فمن كان يحب الغناء ويسمع الغناء تراه يعرض عن آيات الله عز وجل، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:٦ - ٧].

وانظر كيف أثرها عليه؛ لأنه انشغل بسماع الغناء، والغناء صوت الشيطان، والقرآن كلام الله وهما متناقضان، فلما كان منشغلاً بسماع الغناء لم يبق مكان للقرآن، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:٧].

إذاً: فيجب أن تعرف أن أي اهتمام إذا أدخلته في اهتمامك فسيطرد نقضيه، وسيؤثر على نقضيه.

أيضاً معرفة هذه الخاصية تفيدك في العلاج؛ لأن بعض الشباب يقول: أنا أعاني الآن من أني أهتم بهذا الجانب، أو أهتم بالجانب الآخر، أو أهتم بالجانب الثالث، أو أهتم بالجانب الرابع، وهكذا، فثق يا أخي! أنك عندما تهتم بالاهتمام أَلِف، والاهتمام باء، وتريد أن تتخلص منه فلا يمكن أن تتخلص منه هكذا، بل لابد أن نقلص المساحة التي يأخذها من الاهتمامات، فأدخل اهتمامات جديدة، واهتم بأشياء أخرى جادة.

ولهذا نقول دائماً للشباب: الذي يعاني ويقول: أنا أعاني من التفكير في الشهوة، أو مثلاً من الاهتمام بالقضايا الرياضية، نقول له باختصار: أنت عندما تهتم بقضايا جادة ستجد أنها أخذت مساحة وطردت الأخرى، وتدريجياً ستتلاشى تلك الأمور الأخرى من حيث لا تريد أنت، ومن حيث لا تقصد ولا تشعر؛ لأنها قضية تلقائية، فصار لك الآن هم حفظ القرآن، أو تعلم العلم، أو إصلاح النفس، وستأخذ جزءاً من وقتك، ومن تفكيرك، ومن نظرتك للناس، إلى غير ذلك، وستكون على حساب غيرها.

إذاً: فأنت ستوظف هذه القضية لأن تطرد عنك الاهتمامات الأخرى التي لا تريدها، فتستطيع أن تتخلص من تلك الاهتمامات دون الحاجة إلى أن تتكلف، وباختصار شديد عليك أن تدخل الاهتمامات الجادة النقيضة لهذه الاهتمامات.

ولعلنا أن نختم هذا الموضوع بكلمة للحافظ ابن القيم رحمه الله حول من تعلق بالدنيا، وقد لا تكون في موضعها؛ ولكنها كلمة لها أهميتها حول من أصبحت الدنيا همه، ويتحدث عن قول الله عز وجل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلا