للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[سوء الظن]

الآفة الثامنة: سوء الظن: في سورة الحجرات يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:١٠]، ثم يعقبها الله عز وجل بوصايا تعين على إتمام بنيان الأخوة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:١١]، ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:١٢].

وسوء الظن هو تلك الأرض التي تنبت التصيد والبحث عن الأخطاء، سوء الظن هي تلك الشرارة التي توقد هذه العداوات والإحن، والتي تبدأ من شعور في الداخل، ومن ظن سيء، فحينئذٍ يظل الأخ يبحث عن برهان يؤيد ما يختلج في صدره من ظن سيء، فيحول الشك إلى يقين والوهم إلى حقيقة لا تقبل الجدل، ويبني من هذه الأوهام بنياناً شامخاً على رأس دبوس كما يقال.

ولو كان المرء واقعياً لرأى أن الناس تمر بهم ظروف ومواقف وأحوال يراها الإنسان من نفسه، فمثلاً قد يقابل الأخ أحد أخوانه فلا يبش له، ولا يرحب به ذاك الترحيب الذي اعتاده، فيبدأ يفسر ويتساءل عن السبب، ويحمل في نفسه علي شيء، كره مقابلتي إلى آخره، ويبدأ يقرأ في وجهه أوهاماً لو عاد إلى الحقيقة لعرف أن هذا الشخص كان مريضاً، هذا الشخص كان يعاني من مشكلة، هذا الشخص على الأقل كان يفكر، كان شارد التفكير.

أحياناً يتصل على أخيه في الهاتف، ويشعر بعدم الترحيب، ويشعر أن صاحبه يرغب أن ينهي المكالمة في أسرع وقت، وهو لا يعرف ظروفه، أنت اتكأت على أريكتك وأردت أن تنتظر الترحيب ولا تدري أن صاحبك قد يكون على طعام الغداء، قد يكون ينتظره صاحبه عند الباب، قد يكون يقرأ، قد يكون منشغلاً، فهو يريد أن ينهي المكالمة على أحر من الجمر، وقد يكون استيقظ من نومه وينتظر أن تنهي المكالمة حتى يدعو بدعاء الاستيقاظ، فمشاعر الناس لا تعرف ما وراءها.

وبعض الناس طبيعته أنه لا يرحب، وبعض الناس قليل الابتسامة، هكذا طبعه، وهو يكن المحبة والتقدير، وتراه يعني أغلى فرصة هي تلك الفرصة التي تقابله فيها.

فلو كان الإنسان واقعياً لاستطاع أن يجد ألف تفسير وتفسير لمثل هذه الظواهر، لكن حينما يكون حساساً يبدأ يقرأ ما وراء السطور، ويقرأ أوهاماً ليس لها حقيقة، ويقصد كذا ويريد كذا، ثم يعاقبه الله فيبدأ يعيش في جحيم، فعندما يخرج للشارع ويقابل فلاناً ويسلم عليه، يرى ردود الفعل والقضية كلها أوهام.

وافترض يا أخي الكريم أنك أحسنت الظن بعشرة من الناس، واكتشفت منهم تسعة ليسوا أهلاً لحسن الظن، فقال واحد كلمة في مجلس يقصد الإساءة إليك، وأنت حملتها على المحمل الخير، فالنتيجة أنك استرحت منه واستراح خاطرك، وبدأ هذا الشخص يغتاظ، وأنت خرجت سليماً معافى، وماذا عليك مثلاً لو قال رجل كلمة يقصدك بها، أو أخفى ابتسامة وبخل بها عنك ماذا تخسر، لكن حين تحسن الظن ولو أخطأت أحياناً فمنحت حسن الظن لغير من لا يستحق، ستجني راحة البال والطمأنينة.

ويضرب لنا الإمام الشافعي مثلاً في ذلك، جاءه الربيع بن سليمان وهو مريض، فقال له يدعو له: قوى الله ضعفك، قال الإمام الشافعي: لو قوى الله ضعفي لقتلني، يعني لو قوى الله المرض لقتلني، قال: فاعتذر الربيع بن سليمان، وقال: والله ما أردت إلا الخير، فقال الشافعي: إني والله أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير، لكن الإمام الشافعي أراد أن يداعبه، وأن يصحح له هذا الخطأ، فيقول له: لو شتمتني أعلم أنك لا تريد إلا الخير.

ومتى يسود بيننا هذا المنطق، للأسف أننا نحسن الظن بالأعداء، نحسن الظن بأهل النفاق، الذين يتربصون بالدعوة الدوائر، يجتهد الإنسان فيفتش لهم عن ألف عذر، ربما إذا أعوزته المعاذير قال: لعل لهم عذراً وأنت لا تعلم، أما أخوه الذي معه على الطريق، فإنه يتهمه ويقول: هذا يخادع، أنت لا تعرف عواقب الأمور، ولا تعرف ما يريد! يا أخي! هذا على الأقل معك على خط واحد.

ذاك صاحب فجور وفسق لا يحضر الصلاة في جماعة المسلمين وهو يجاهر بالمعصية، فيقول: لا يا أخي الكريم، إنه يريد الخير، يريد المصلحة، أحسن الظن بالناس، اتق الله، هل فتشت عن قلبه، لكن تجاه الأخ الناصح يقول: هذا فيه مشكلة، وإذا لم يكتشف الخطأ يقول: هناك خطأ لكن نتيجة دهائه وخبثه ومكره استطاع أن ينطلي عليك.

فهذا أحياناً منطق نسمعه بين الإخوان وبين الدعاة، نعم قد يكون أخطأ، لكن متى يأتي الحال الذي يعامل الإخوة بعضهم بعضاً بذاك المنطق الذي يعاملون به أعداءهم، وتلك المجاملات التي يعاملون بها أ