[عدم الحكم على الناس بالخروج عن السنة بدافع الغيرة]
كذلك من الأمور المهمة في الرفق بالناس والرحمة بهم ألا يسعى الإنسان إلى الحكم على الناس ويكون هذا همه، إن البعض من الناس يؤتى من غيرته وحرصه على حماية العقيدة فيتصور أنه بقدر ما يخرج الناس من العقيدة ومن دائرة أهل السنة والتوحيد، بقدر ذلك يكون أكثر غيرة على عقيدة أهل السنة وأكثر حماية لها.
وقد يسري وهم خاطئ عند البعض من الناس أن الذين تطول قائمة من يجرحونهم ويخرجونهم من دائرة أهل السنة أن أولئك هم أكثر الناس غيرة على منهج أهل السنة، وأن أولئك هم أصدق الناس توحيداً، فهم أولئك الذين لم ينج منهم أحد، ولن يستطيع أن يفلتهم أحد.
نعم، لا شك معشر الإخوة الكرام أن المنتمي إلى هذه العقيدة العظيمة يعز عليه أن تخالف هذه العقيدة، وأن تتسلق أسوارها، ولاشك أن حبه لهذه العقيدة وتمكنها في قلبه تدعوه إلى أن يتجاوز مجاملة الخلق ومداهنتهم على حساب الإخلال بها، لكن هذا أيضاً لا يدعو الإنسان إلى أن يكون همه البحث عن أخطاء الناس والتفتيش عنها ويرى أن هذا من تمام الغيرة على العقيدة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه:(ما أحب أن يبلغني أحد عن أحد شيئاً)، وحين قتل أسامة رضي الله عنه رجلاً قال لا إله إلا الله، والموقف يوحي ويشعر لكل من يقرؤه أن هذا الرجل قالها تقية، كما قال أسامة إنه رجل كان يقتل المسلمين فما ترك أحداً إلا وقتله، فحين أدركه أسامة ورفع عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فأي إنسان لاشك أنه يتصور أن هذا الرجل إنما قال هذه الكلمة فراراً من القتل، وإلا فأين تصديقه بهذه الشهادة وأين إقراره بها قبل ذلك؟ ومع ذلك لما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم رد أسامة بأنه إنما قالها فراراً من القتل، فقال:(أفلا شققت عن قلبه) يعني: هلا شققت عن قلبه حتى تعرف أقالها صدقاً أم لا؟ يا أخي، ما دام هذا قد أظهر الشهادة وأظهر كلمة الحق فلماذا تفتش عما وراء ذلك، ولماذا تبحث عن قرائن؟ فأغلظ النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة حتى تمنى أنه لم يسلم إلا هذا اليوم حتى ينجو من هذا الموقف، مع أن القرائن كانت قوية عند أسامة، وهي التي دفعته إلى قتله.
وقوله صلى الله عليه وسلم:(هلا فتشت عن قلبه) الخطاب ليس لـ أسامة رضي الله عنه وحده، بل هو خطاب للأمة أجمع، أنه ما كلفنا بالتفتيش عن قلوب الناس.
يا أخي هذا إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، بل يقول لك: أنا على عقيدة التوحيد، وأنا على هذا المنهج وأنا أسير عليه، وتقول له: لا، إنك لست على ذلك، وتنكر عليه ادعاءه وتذهب تفتش عما يقوله وتبحث عن كلمة تحتمل تأويلاً حتى تخرجه من هذه الدائرة! هل مقتضى الغيرة على عقيدة أهل السنة يقتضي منا هذا المسلك؟ أم يقتضي منا أن نأخذ الناس على ظاهرهم وعلى ما يبدون، فمن أظهر خيراً وصدقاً ونصيحة واتباعاً للسنة قبلنا منه وحسابه على الله عز وجل، ومن أظهر خلاف ذلك عاملناه بما يظهر منه.
أما أن يأتينا مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويظهر الصدق والإقبال على الله عز وجل، وينتسب إلى أهل السنة وهي الطائفة الناجية ويسلك سبيلها، ونذهب نكابر ونجادل ويكون الأصل عندنا أن نشك في عقائد الناس حتى يثبت خلاف ذلك، ويكون الأصل عندنا إذا ترددنا في الشخص أن نحكم عليه بخلاف ذلك؛ فلا أظن أن هذه غيرة على عقيدة أهل السنة، ولا أظن أن هذه غيرة على عقيدة التوحيد، وليس من الخدمة لمنهجك أن تسعى إلى إخراج الناس منه، وأن تسعى إلى أن تبعد الناس عنه.
لاشك أن الرحمة بالناس والخلق لا يمكن أن تدعونا إلى أن نتستر عن الأخطاء والأمور الظاهرة، لكن شرع الله لنا التعامل مع ما يظهر من الناس ومع ما يبدو منهم، وسرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى.