للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإرادة وضبط النفس]

المجال الأول: الإرادة وضبط النفس، كثير هم أولئك الذين تبدو عنترياتهم وصلفهم أمام الآخرين لكنهم ينهارون مع من هو دون الآخرين وأقرب إليهم من غيرهم.

إن أول ميدان تتجلى فيه الرجولة أن ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء إن الرجل هو الذي تدعوه نفسه للمعصية فيأبى، وتتحرك فيه الشهوة فيكبح جماحها، وتبدو أمامه الفتنة فلا يستجيب لها، وأولى الناس بالثناء شاب نشأ في طاعة حيث تدعو الصبوة أترابه وأقرانه إلى مقارفة السوء والبحث عن الرذيلة، ورجل تهيأت له أبواب المعصية التي يتسابق الناس إلى فتحها أو كسرها حيث تدعوه امرأة ذات منصب وجمال فيقول: إني أخاف الله.

معشر الشباب! إن ميادين الانتصار على دواعي الرذيلة وشهوات النفس، وأول ميادين الهزيمة أن يدرك المرء خطأ الطريق ووعورة المسلك لأنه لم يطق أن يقول لنفسه: لا، فأين الرجال هنا لينتصروا على أنفسهم أين الرجال الذين يقودون أنفسهم ولا تقودهم ويأمرونها ولا تأمرهم؟ إن أولئك الذين يهزمون في المعركة مع النفس أحرى بأن يهزموا في المعركة الكبرى مع العدو الغاشم، ولن تنتصر أمة يقودها نحو الميدان مهزومون.

وهاهم قادة المسلمين الذي سطروا الملاحم كان حاديهم نحو النصر على العدو الانتصار على الذات والاستعلاء على الشهوات، فهاهو عبد الرحمن الداخل لما نزل من البحر إلى بر الأندلس وقد قدم إليه خمر ليشرب فأبى وقال: إني محتاج لما يزيد عقلي لا إلى ما ينقصه، فعرف الناس من ذلك قدره، ثم أهديت له جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وإن أنا لهوت عنها بمهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت مهمتي، فلا حاجة لي بها الآن.

وكما أن الرجال ينتصرون على أنفسهم حين تدعوهم للهوى والصبابة، فهم ينتصرون عليها حين تدعوهم للغضب والحمية في غير ما يرضي الرحمن.

عن رجل شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قال: (تدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، قال: الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً، قال: تدرون ما الصعلوك؟ قالوا: الذي ليس له مال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الصرعة؟ قالوا: الصريع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصرعة كل الصرعة الرجل يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه) رواه أحمد.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

إن الاستجابة للاستفزاز والزمجرة والانفعال عند الغضب ورمي الشتائم كالصاعقة على القريب والبعيد أمر يجيده الكثير، لكن الذي لا يجيده إلا الرجال الحلم حين تطيش عقول السفهاء والعفو حين ينتقم الأشداء، ولذا أثنى القرآن على طائفة من المتقين ووعدهم بالمغفرة والجنان الواسعة فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:١٣٣ - ١٣٦].

والإحسان إلى من يسيء منزلة لا يطيقها كل الناس إنما يطيقها الرجال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٤ - ٣٥].

وقد يسوغ للإنسان أن يأخذ حقه وينتصر ممن يظلمه لكن العفو والتنازل عن الحق من شيم الذي كملت رجولتهم ولا يطيقه إلا أهل العزائم: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُ