[ضرورة الجلوس مع الأبناء وحل مشاكلهم بحكمة ولين ولطف]
حين اكتشفت الشرارة: لا زال في خاطري وهاجسي يا أبت! موقفك حين اكتشفت أول مظهر من مظاهر الانحراف عند أخي، وكان ذلك بالطبع عن طريق الصدفة، وبعد وقت طويل، وأتذكر يا أبت كيف كان موقفك: كلمات لاذعة كالعادة، وتأنيب قاتل، وما هي إلا أيام وكأن شيئاً لم يكن، حتى استمرأ أخي ما هو عليه وألف الفساد.
ما رأيك يا أبت! لو كان البديل أن جلست معه جلسة خاصة، وفتحت له قلبك، وسألته المصارحة: ما السبب؟ ومتى؟ ولماذا؟ أتعرف عواقب هذا الطريق؟ وماذا أستطيع أن أعينك به؟ وهذا كله مع قدر من الحزم والجدية، ألا ترى أن هذا البديل قد يكون أنجع، وأن هذا الحل قد يكون أولى؟ التعليق: أعتقد يا أبت! أن التربية أبعد مدى من مجرد الأمر بالصلاة، والنهي عن المنكرات، والتي حتى لا نسمعها إلا بلغة أعلى في المقاطعة التامة مع الرفق والحكمة، أليس من حقي يا أبت! عليك أن تأخذ بيدي في وصية بالغة، أو موعظة مفيدة، أو تعليم مسألة من مسائل العلم مما أحتاج إليه؟ لقد قرأت يا أبت! في كتاب الله عن لقمان الذي آتاه الله الحكمة، ووصيته الجامعة الفذة لابنه، {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:١٣ - ١٩].
وكم كنت أتمنى أن أتلقى منك مثل هذه الوصية.
يا أبت! أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت) الحديث.
وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان سعد يعلمنا خمساً يذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر)، رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد صحيح.
وهاهو محمد بن سعد رضي الله عنه قد ورث هذا المعنى من والده سعد، يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني! إنها شرف آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها.
لا ترى يا أبت! ذكر ابن سحنون في كتابه (آداب المعلمين) عن القاضي الورع عيسى بن مسكين: أنه كان يقرئ بناته وحفيداته، قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه وبنات أخيه؛ ليعلمهن القرآن والعلم.
وكذلك كان يفعل قبله أسد بن الفرات بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة.
لقد كان السلف يا أبت! يعنون بتعليم أبنائهم وتوجيههم، ومن ثم حفظ لنا التاريخ الوصايا الكثيرة التي تلقوها من آبائهم، روى الخطيب البغدادي في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع): أن إبراهيم بن الحبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: ائت الفقهاء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث.
وحين سافرت يا أبت! في رحلة مدرسية مع أستاذي عشت فيها جواً أستذكر طيفه، وأستعيد خياله كل يوم، فكنت أسمع التوجيه، والموعظة، والتأديب، والفائدة، والوصية من أستاذي، بلغة التعليم والتربية، مما كنت لا أسمعه من أبي وللأسف، ومما حفظته في المدرسة يا أبت! عود بنيك على الآداب في الصغر كي ما تقر بهم عيناك في الكبر فإنما مثل الآداب تجمعها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر