[ظلم النجباء بعدم الاعتماد عليهم وترسيخ هاجس الخوف من الغرور والإعجاب بالنفس عندهم]
ومن الأخطاء التي نقع فيها تجاههم -وهو الخطأ المعاكس- تنمية هاجس خوف الإعجاب عندهم، فأحياناً نقضي على الشاب ونحطمه بحجة حمايته من أن يعجب بنفسه، وهي مشكلة أيضاً أخرى، فمثلاً: الأب لما يأتيه ابن عنده قدر من الذكاء فيعطي ملاحظات على ما يشاهده، ويبدأ ينتقد أشياء معينة، فيخشى الأب أن يعجب الابن بنفسه فيحاول أن يقضي عليه، ويقتل هذا الطموح عنده، ويربيه على الاتكالية وعدم الاعتماد على النفس، حتى أنك تجد أحياناً الشاب يكون عمره عشرين سنة ووالده لا يثق فيه ليرتب لوليمة أو مناسبة عائلية، بل أحياناً وللأسف لا يحصل الشاب على منزلة عند والده من الثقة إلا بالقدر الذي يؤهله لأن يشتري الخبز لأهله، فنقول لمثل هذا الأب: يا أخي إن هذا الابن لما بلغ سن التكليف أصبح مؤهلاً لأن يتحمل المسئوليات فأتمنه الله على الطهارة والغسل والصلاة والزكاة والحج وعلى سائر العبادات، ففرض عليه الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أحياناً يتخرج الشاب من الجامعة وهو غير مستقل في اتخاذ قرار، ولا يستطيع أن يعبر عن رأيه، ولا يمكن أن يشارك أبداً، فإذا نظرنا إلى كيفية تعاملنا مع أبنائنا لوجدنا أن الخلل فينا، مثلاً: عندما يكون عند الإنسان مناسبة فهل يثق في ابنه كي يتحمل مسئولية الإعداد للوليمة بدءاً من شراء الذبيحة والفاكهة وإعدادها ودعوة الأقارب والتنظيم والتنسيق مع المطبخ إلى غير ذلك، أبداً لا يمكن أن يثق فيه؛ لأنه لا يعرف كيف يشتري، ولا يعرف كيف يصرف إلى غير ذلك، فيبدأ الابن يتحطم، وحينما يطلب منه أستاذه أو من يربيه أدواراً هي أصلاً دونه يشعر أنها أعلى منه لأنه ما تعود على مثل هذه المسئولية، فنحن نساهم إذاً في تحطيم هذا الشاب، فالأب أو حتى الأستاذ أو أحياناً المربي يساهم في تحطيم هذا الشاب وقتل موهبته حتى لا يصاب بالغرور والإعجاب.
يذكر لي أحد الأساتذة أن عنده طالباً موهوباً وعنده قدرة جيدة في الفصاحة والإلقاء، فيقول: إني لا أمكنه من أن يلقي كلمة في المدرسة أبداً، فقلت: لماذا يا أخي؟ قال: أخاف عليه من الإعجاب بنفسه، فقلت: طيب يا أخي متى سيتأهل بعد ذلك؟! ولننظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنرى مواقف عجيبة: فمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أمَّ قومه وهو دون العاشرة، طيب هذا ليس عرضة لأن يصاب بالإعجاب؟! علي بن أبي طالب وهو لم يصل إلى سن العشرين وثق فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأتمنه على سر من أخطر أسرار الدعوة في مكة، حيث كان علي يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وما كان كل المسلمين يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، ونعرف فائدة هذه الثقة من قصته مع أبي ذر، فلما جاء أبو ذر ليسلم تعرف عليه علي بن أبي طالب ثم قاده إلى دار الأرقم بطريقة محكمة فعلاً، نفهم منها لماذا ائتمن علي رضي الله عنه على هذا السر، وهذه المعلومات التي أعطيها علي ليست خطيرة في حق المجتمع، ولا في حقه هو، ولا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم حتى، بل هي خطيرة في حق الدعوة؛ لأن هذا المنزل بمن فيه يمثلون نواة الدعوة:(اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض)، ومع ذلك يتحمل المسئولية.
في حادثة الهجرة يبيت علي يبيت على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ويبقيه النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمه الودائع ليسلمها لأعدائه الذين أخرجوه.
نموذج آخر: أسامة بن زيد رضي الله عنه يثق فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيشاوره كثيراً في أمور أهله، ويوليه النبي صلى الله عليه وسلم الجيش الذي يذهب إلى الروم وهو لما يبلغ العشرين من عمره، رغم أن هذه تكاد تكون أول مواجهة للمسلمين مع الروم، لأنه في غزوة تبوك ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من الروم كيداً، والمواجهة الفعلية ستكون هذه المواجهة التي سيذهب فيها فيوطئ الخيل تخوم البلقاء، فيوليه النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، وحين طعن بعض الناس في هذه الإمارة واستغربوا أن يتولى شاب هذا الأمر غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(فإن كانوا طعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه وإن كان لخليقاً للإمارة)، وهذا الجيش فيه كبار الصحابة، وفعلاً يقوم أسامة بن زيد بهذه المهمة وينجح فيها.
فهذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما عرفت البشرية أفضل تربية منه، وكما قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه:(بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه).
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء كما قال حسان رضي الله عنه في ثنائه على النبي صلى الله عليه وسلم.