الجانب السادس: تنازل عن بعض حقك: تحكي لنا عائشة رضي الله عنها صورة من هديه صلى الله عليه وسلم فتقول: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً في مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان من أشدهم على ذلك غضبا، وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثماً) الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي في الشمائل.
فهو صلى الله عليه وسلم لم ينتصر في مظلمة لنفسه ظلمها قط، إنما ينتصر عندما تنتهك محارم الله عز وجل.
وتقول أيضاً في وصف آخر له صلى الله عليه وسلم:(لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي في سننه، ورواه الترمذي -أيضاً- في الشمائل المحمدية والطيالسي.
وكلنا يحفظ تلك الصورة المثلى من خلقه صلى الله عليه وسلم التي يحكيها أنس رضي الله عنه، يقول:(كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فجاءه أعرابي، فجبذه بردائه؛ حتى أثر الرداء في صحفة عنقه، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك.
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليه وابتسم، ثم أعطاه حتى رضي).
أقول -يا إخوان-: قد يساء إليك، وما أكثر ما يسيء إليك هؤلاء، ولا شك أن الذي أساء الأدب مع الله عز وجل، وأن الذي يتجرأ على محارم الله، لابد أن يسيء الأدب مع خلق الله عز وجل.
أقول: لابد أن يأتيك من ذلك إساءات، ولابد أن يأتيك تجاوزات من هؤلاء، قد يسخر منك، وقد يظلمك، وقد يأخذ بعض حقك.
المهم أنه قد تحصل لك إساءة، فتنازل -يا أخي- عن بعض حقك، ويجب أن تتميز بأنك الرجل الذي تتنازل عن حقك، تحلم، وتعفو، وتكظم الغيظ، وتصفح، تلك الأخلاق التي تعلمتها وأنت تقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:١٣٣ - ١٣٤].
بل إن عفوك وصفحك وتنازلك عن حقك الغالب أنه يعيد إليك الحق، فلو سخر منك وقابلت ذلك بالإحسان؛ فإنه لابد أن يعرف أن هذه يد لابد أن يجزيك بها، ولو أساء إليك بأي إساءة أخرى وقابلت هذه الإساءة بالصفح والإحسان والعفو؛ لحفظ هذا الجميل لك، وستلقاه بعد ذلك عاجلاً، وأنت لا تبحث عن الجزاء العاجل، إنما تسلك ذلك استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، واقتداءً بهدي نبيك صلى الله عليه وسلم الذي كان كثيراً ما يعفو صلى الله عليه وسلم، بل تحكي عنه زوجه أقرب الناس إليه أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ينتصر لمظلمة ظلمها قط عليه أفضل الصلاة والسلام، وما يكسب الناس مثل الحلم، وما يكسب الناس مثل الصفح والعفو والتنازل عن الحقوق.