[دخول التتار واجتياح بغداد]
ثم حصلت كارثة أخرى كارثة التتار، وأنقل لكم نماذج مما ذكره الحافظ ابن كثير لعلي اختصر فيها اختصاراً للوقت فقد أطلنا في الحديث.
يقول: ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة، فيها أخذت التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.
يقول: ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله.
يقول: ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.
قال: وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد، كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء:٤ - ٥].
قال: وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.
يقول: وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل، والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه وجواريه، فيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد.
ثم قال: ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوماً؛ بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد؛ حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام؛ فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
هذه مقتطفات مما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله حول ما أصاب المسلمين في غزو التتار.
هذه المآسي وقعت للأمة في بغداد، حتى سيطر على المسلمين اليأس، وشعروا أن التتار قوة لا تقهر، ثم استفاقت الأمة بعد ذلك، وقاتلوا التتار وهزموهم، وعادت الأمة إلى مجدها ونصرها.
إذاً هذه النماذج أيها الإخوة! الأمة التي استفاقت بعد أحداث الردة، الأمة التي استفاقت بعد غزو الصليبيين، الأمة التي استفاقت بعد مجازر التتار وغزوهم، قادرة بإذن الله أن تستفيق وأن تنتصر.
وقراءة التاريخ يعطينا الدرس والعبرة، لكن اليائسين لا ينجحون، والنصر لا يكتب لليائسين، والتغيير لا يمكن أن يتم على اليائسين.
اللهم إنا نعوذ بك أن نيئس من روحك ورحمتك، إنك