[العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه]
الأمر الثالث من العلم الذي لا ينفع، وإن كان هذا قريب من النوع السابق، ولكن ننص عليه لأهميته وإلا فهو جزء مما سبق، العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه في خشوعه وهديه وسمته: واليوم تجد عزلة بين التقوى والورع والخشوع والسمت وبين العلم، وما عرفت الأمة هذه العزلة من قبل، بل هما أمران يجب أن يتلازما: فحين يكون عند المرء علم لا يقوده إلى ذلك، فقد أوتي علماً لا ينفعه، وحين يكون عنده خشوع وتخشّع وخشية بعيدة عن العلم فهو أشبه بحال الضالين من النصارى وأهل التصوف {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:٣ - ٤].
ولهذا جاء وصف أهل العلم في كتاب الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩].
فالله عز وجل هنا قد وصف الذين يعلمون بأنهم قانتون ساجدون، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم، إذاً فالعلم كان مدعاة لأن يتحقق لديهم ذلك رجاء رحمة الله ورغبته، والخشية من عذابه والقنوت والعبادة والخشوع لله سبحانه وتعالى.
وفي سورة الإسراء قوله تبارك وتعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:١٠٧ - ١٠٩].
ولهذا قال أحد السلف: من أوتي من العلم ما لم يبكيه فحري ألا يكون أوتي علماً، ثم قرأ هذه الآيات.
نعم لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:١٠٧ - ١٠٩] فهذه حالهم، وهذا أثر العلم عليهم وما جلبه لهم؛ ولهذا كان الشأن في عهد سلف الأمة ألا يلبث الرجل يطلب العلم حتى يُرى أثر ذلك في تخشعه وصلاته وعبادته.
وكانوا كما قال جندب رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا به علماً).
وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم لشأن مجالس الذكر التي تشهدها الملائكة كما أخبر صلى الله عليه وسلم: (أن لله ملائكة سيارة يتبّعون حلق الذكر، فإذا جاءوا إلى هذا المسجد قالوا: هلمّوا إلى حاجتكم، ثم يصعدون إلى ربهم تبارك وتعالى فيسألهم عز وجل فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبّحونك ويحمدونك ويهللونك ويكبرونك، قال: فماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنة، قال: فمم يستجيرون؟ قالوا: من النار، قال: أشهدكم أني قد أعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، قالوا: فيهم فلان عبد خطاء، ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وهذا الحديث من أعظم الأدلة على هذا الأمر؛ لأنه وصف هؤلاء بأنهم يسبحون الله ويحمدونه ويهللونه ويكبرونه، فهذا شأن طلبة العلم، وهذا شأن الذين يحضرون مجالس العلم، ثم هم يسألون الله الجنة ويستعيذون به من النار، حتى حينما قال الله: قد أعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا به كأنهم تساءلوا فقالوا: فيهم فلان خطاء، يعني أن الأصل في هؤلاء أنهم بعيدون عن المعصية والخطيئة، ولهذا لما رأوا ذاك الرجل جلس معهم كأنهم رأوا أن هذا ليس متصفاً بصفاتهم وليس مثلهم، فكأنهم رأوا أنه لا يستحق هذا الجزاء الذي وُعد به هؤلاء، وهذا الرجل ما استحق هذا الأمر إلا بصحبته هؤلاء: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فإذا كان هذا الجليس قد غُفر له لأنه جالسهم وصاحبهم، فما بالكم بحالهم هم؟ فأنت لا تطمع وتطمح أن تكون مثل هذا الرجل لأن هذا الرجل كما جاء في هذا الحديث قد غُفر له، لأنه صاحبهم ولأنه جالسهم، وهذا يعني أن منزلة هؤلاء وأن ثواب هؤلاء أعظم مما يصل إليه هذا الإنسان الذي ما غُفر له إلا لأنه جالسهم، فكيف إذا كان مثلهم وعمل مثل عملهم؟ إذاً يجب علينا أيها الإخوة أن نتفقد أنفسنا، وأن نتساءل: أين أثر العلم على هدينا وعلى سلوكنا وسمتنا وخشوعنا؟ ولماذا نرى أن قضية الورع وقضية الهدي والخشوع والعبادة باب آخر غير باب العلم؟ لا.
فهما قرينان لا يفترقان؛ ولهذا حين قيل للحسن وهو من أورع الناس: يا عالم، قال: هل رأيت عالماً قط؟ إنما العالم من يخشى الله عز وجل.
وكما كان قول السلف: