للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخطأ في تحديد منهج السلف]

الخطأ الرابع: الخطأ في تحديد منهج السلف.

إن منهج السلف لا يجادل أحد اليوم في أنه هو المنهج المقبول، بل هو المنهج الذي تتعبد به الأمة، ولا أدل على ذلك من أنك لا تجد مسلماً داعياً إلى الله تبارك وتعالى في مشرق الأرض ومغربها أياً كان مقدار استقامته وانحرافه يرضى بأن يوصم بأنه يخالف منهج السلف، وحينما يتهم أي واحد من هؤلاء بأنه قد خالف منهج السلف فإنه يبادر إلى الدفاع عن نفسه، وإثبات أنه لا يزال على منهج السلف، وأنه لم يخالف منهج السلف، وهي قضية إيجابية ونقلة مهمة انتقلت إليها الأمة أن يتفق الجميع على منهج السلف في الجملة، لكن الذي يحصل فيه الخلل هو تقرير منهج السلف.

إننا بدأنا نسمع كثيراً عن أن هذا هو منهج السلف، وأن هذا خلاف ما عليه السلف، ونتيجة لتعظيمنا لمنهج السلف وقبولنا له ورهبتنا من أن نصوم بأننا قد خالفنا منهج السلف فقد تحدث هذه القضية في أذهاننا ما تحدث، لكن القضية التي ينبغي أن تثبت أولاً هي أن هذا المنهج هو بحق منهج السلف، إن منهج السلف ليست دعوى يدعيها كل إنسان ويتاجر بها فيقول: إن هذا هو منهج السلف، أو هذا على خلاف منهج السلف، أو هذا ليس على منهج السلف، وسأشير هنا إشارة سريعة إلى بعض الأخطاء التي قد يقع فيها البعض في تقرير منهج السلف: أولهاً: أن يجعل رأي آحاد السلف هو منهج السلف.

فقد يأتي البعض من الناس ليقرر قضية من القضايا فيورد لك قائمة النقول عن جمع من التابعين وسلف الأمة ليستنبط بعد ذلك ويخرج بنتيجة أن هذا هو منهج السلف، وأن هذا هو مذهب السلف، لكنه قد يخفى عليه أن هناك طائفة من السلف ربما كانوا أكثر من أولئك الذين ساقهم هذا الرجل يخالفون في ذلك.

إذاً: ليس لنا كلما وجدنا قولاً لواحد من آحاد السلف أن نعتبره منهج السلف، وأن نعتبره المنهج الذي لا يسع الأمة أن تقول بخلافه، لا شك أن المسلم يقدر أقوال سلف الأمة، ويضعها في موضعها ويزنها بميزانها، لكن أيضاً أن تحول آراء آحاد السلف إلى منهج تتعبد الأمة به، ويوصم الناس بالانحراف لأنهم خالفوا رأي فلان أو فلان من السلف، فهي قضية بحاجة إلى أن يعاد النظر فيها، مثلاً: لو أتانا رجل وادعى أن منهج السلف هو وجوب الاستثناء في الإيمان، فإنه يستطيع أن يأتي بطائفة من أقوال السلف تنص على ذلك، ويقرر بعد ذلك أن هذا هو منهج السلف، وأن من لم يجز الاستثناء في الإيمان فقد خالف منهج السلف، لكن قد يقابله رجل آخر فيورد أيضاً قائمة أطول من تلك القائمة التي أوردها والتي ينقل فيها عن بعض السلف أنهم قالوا بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، وأنا هنا مثلت بقضية واضحة ظاهرة معروف الخلاف فيها بين السلف، بغض النظر عن تحرير موطن الخلاف حول هذه القضية، لكنها قضية تؤكد لنا أنه ليس بمجرد أن يقال: قال فلان وهو من السلف أن هذا يكون هو منهج السلف، مع تأكيدنا على احترام آراء السلف وتعظيمها وتنزيلها منزلتها، لكنه لا يمكن أن تحوّل آراء فلان أو فلان إلى دين تلزم الأمة بقبوله، ويوصم من خالف هذا الاجتهاد وهذا الرأي بأنه منحرف، وإلا فبم نفسر ما ورد عن السلف من خلاف في مسائل كثيرة؟ خاصة وأن الكثير ممن يتحدث في هذه القضايا يغض الطرف عن عمد أو عن غير عمد عن أقوال أخرى لجماهير من السلف ربما كانوا أكثر من أولئك الذين حكى عنه تخالف هذا القول، إن الأمانة العلمية تقتضي أن تورد أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء ثم توفق بينها، واحترام عقل القارئ يقتضي منك أن تورد هذا كله، أما أن تضع يدك على عين وتنظر بعين واحدة وتتعامل مع جانب واحد فهذا عنوان دخول الهوى، وحين يدخل الهوى إلى ميدان البحث فإن هذه أول خطوة لمجانبة الصواب والانحراف عن المنهج.

الخطأ الثاني في قضية منهج السلف: إهمال عامل الزمان واختلاف الأمور.

لا شك أن هناك قضايا مسلمة في كل وقت وفي كل زمان لا تختلف فيها الأمور، لكن هناك قضايا نقلت فيها عن السلف أقوال قالوها في زمان معين أو عصر معين أو ظروف معينة، لا يمكن أن تكتسب هذه النصوص وهذه الأقوال صفة العموم والتعميم، ومهما كانت آراء السلف فهي لا ترقى إلى منزلة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تتجاوز حدود الزمان والمكان.

ولأضرب على ذلك مثالاً حتى تتضح الصورة: لو تأملنا ما كتبه السلف لوجدنا أنهم ينهون كثيراً عن صحبة الأمرد وعن مجالسته ولو لمصلحة تعليمه وتهذيبه وتربيته، والنقول في ذلك عن السلف لا تخفى، ولهذا قد يأخذ بعض الغيورين هذه النصوص وينزلها على هذا العصر، ويقول: ينبغي ألا يصحب هؤلاء، وينبغي للصالحين والأخيار أن يبتعدوا عن صحبة هؤلاء، وأن يبتعد هؤلاء عن مثل هذه المجالس والمجامع؛ لأن السلف كانوا ينهون عن ذلك، وقد ينسى هؤلاء -وهم لا شك ينطلقون من منطلق الغيرة والحرص على اتباع منهج السلف- مراعاة فارق الزمان، وفارق ذاك الوقت الذي قيل فيه هذا القول والوقت والمرحلة التي نعيشها، إننا الآن حين ننهى الصالحين الأخيار عن مصاحبة هؤلاء والأخذ بأيديهم وتربيتهم وتهذيبهم فهذا يعني أن يترك هؤلاء هملاً يتيهون في الشوارع والأز