الوسيلة الثالثة وهي من أهم الوسائل العملية: القدوة العملية: تحدثنا في الجوانب المعرفية عن إبراز نموذج من التاريخ والحديث عنه والتعليق عليه لكن القدوة المنظورة التي يراها الناس تترك أثراً عظيماً في النفوس أفضل بكثير وأكثر من ألف كلمة وألف حديث يقال أمام الناس، وهاهو المربي الأول صلى الله عليه وسلم كان نموذجاً في ذلك، كان قدوة صلى الله عليه وسلم يشارك الناس في جوانب كثيرة، ولنأخذ على ذلك أمثلة: في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه في قصة بناء المسجد حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبنون المسجد فكانوا كما قال أنس: وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل معهم ويعيش معهم في الميدان، لا شك أن هذا كان يمثل أعظم دافع للمسلمين؛ وكان يمثل هذا العمل نموذجاً ممتعاً لهم ويتمنى من يقرأ هذه الأخبار أن كان يعيش معهم مثل هذا الموطن، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليجلس ويأمر أصحابه ويوجههم، أو كان يجلس من بعيد ويشير لهم، حتى المشاركة التي كان يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت لأجل قضية دعائية، ولكن كان يشارك فعلاً ويحمل معهم ويبذل ويجتهد صلى الله عليه وسلم.
وفي حفر الخندق كما قال أحد الشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو سهل بن سعد رضي الله عنه:(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره).
ولهذا استطاع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يحفروا هذا الخندق في مدة قياسية فعلاً فلا توجد وسائل حديثة بأيديهم، فكيف استطاعوا أن يعملوا؟ هل هو من خلال كلمات ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أو خطبة؟ لا، ولكن نزول الميدان قدوة عملية، يرون النبي صلى الله عليه وسلم يعمل معهم فيترك هذا العمل أثره العظيم أكثر من ألف خطبة وألف موعظة.
ولما جاء جابر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وما عليه من الجوع والتعب، فرق لحال النبي صلى الله عليه وسلم فذهب إلى امرأته وأمرها أن تعد طعاماً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ائت يا رسول الله! أنت واثنين أو ثلاثة من أصحابك.
نموذج آخر من هديه صلى الله عليه وسلم يقول أنس رضي الله عنه:(كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد استبرأ الخبر وهو على فرس لـ أبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا!) فرس لم يسرجه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجد وقتاً ليسرجه، فحين فزع المسلمون لينظروا ماذا يعني هذا الصوت وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد عاد إليهم وقد استبرأ الخبر.
كيف يتربى هذا الجيل الذي يرى هذا النموذج أمامه، ولهذا كان هذا الجيل هو الجيل المؤهل لحمل الرسالة، كم كان أولئك الذين عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، وانظروا إلى فتوحاتهم ومواقفهم وأين وصلوا؟ يقول أحد التابعين: أرتج علينا الثلج ونحن في أذربيجان مع عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ووصل أبو أيوب إلى أسوار القسطنطينية، والآخر وصل إلى المحيط إلى هنا وإلى هناك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا كانوا بهذه الروح؟ لأنهم تربوا تربية عملية؛ فهذه أفضل وسيلة نقدمها للناس حين نريد أن نربي الجيل نكون جادين نحن فعلاً، وسنترك بأعمالنا أضعاف أضعاف ما نتركه بأقوالنا، ولسنا بحاجة إلى ترديد الحديث أكثر من حاجتنا إلى النموذج العملي.
أرأيتم إلى حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه إذ قال:(جاء قوم عامتهم من مضر بل كلهم من مضر مجتابي النمار، فرق النبي صلى الله عليه وسلم لحالهم، ثم خطب صلى الله عليه وسلم فقال: تصدق رجل من درهمه من صاع بره من صاع تمره، فجاء رجل من الأنصار معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) انظر إلى أثر النموذج العملي الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية حين أمر أصحابه أن يحلقوا لم يحلق أحد منهم، فجاء يستشير أم سلمة فقالت:(اخرج ولا تكلم أحداً وادع بالحلاق واحلق رأسك) فحين حلق ونحر تقاتل الناس، فهل نستطيع أن نصل إلى هذا المستوى؟ نعم حين نكون نحن جادين فلنعلم أن جيلنا سيكون جاداً حين يكون المربون والموجهون وأهل الرأي فعلاً جادين فإنهم يصنعون من خلال تعاملهم مع