الوقفة الثانية حول التلبية: لقد كان أهل الجاهلية يعلنون الشرك الصراح وهم يلبون ويجاهرون به، فيقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك! فجاء الإسلام بتلبية التوحيد والإخلاص، إنه إعلان للبراءة من الشرك بكل صوره وأبوابه، من الشرك في ربوبية الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو وحده المتصف بصفات الجلال والتعظيم فاعتقاد أن أحداً من البشر يشاركه سبحانه وتعالى الخلق أو الرزق أو أنه يملك الضر والنفع هو إشراك مع الله عز وجل المتفرد بالربوبية، وكم يتجرأ أولئك الذين يعلنون هذا الدعاء صباح مساء: لبيك لا شريك لك كم يتجرأ هؤلاء على الشرك بالله عز وجل في مقام ربوبيته، فيعطون تفويضاً لمن يسمونهم بمشايخ الطرق أو الأئمة أو غيرهم، يعطونهم تفويضاً في التصرف في الكون فيعتقدون أن فلاناً ينفع، أو أن فلاناً يضر، أو أن فلاناً بيده هذا الأمر أو ذاك.
واعتقاد أن هناك من يملك التشريع للناس والتحليل والتحريم هو أيضاً خرق لسياج التوحيد، واستخفاف بالله عز وجل وعظمته، وهو القائل:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى:٢١]{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:١٢١]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:٤٤]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:٤٥]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة:٤٧].
إنها قضية واضحة كل الوضوح لا لبس فيها ولا غموض ولا مجال فيها للمجادلة والمراء، إن إعطاء حق التشريع والإباحة والتحريم لأحد غير الله عز وجل خرق لسياج التوحيد وإشراك بالله عز وجل في ربوبيته، ويصدق على أولئك قول الله عز وجل:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}[التوبة:٣١] فما بال هذا الرجل الذي يُعلن التلبية ويصدح بها نافياً للشرك عن الله عز وجل، يتجرأ في الإشراك بالله عز وجل ومنازعة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وأمره:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:٥٤]، وقد قرن الله عز وجل الحكم بشرعه بعبادته:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[يوسف:٤٠].
والتوجه لغيره سبحانه وتعالى بالدعاء وطلب الحاجة إعلان ممن فعل ذلك أنه يجهل قدر الله عز وجل، وأنه لا يعظّم الله عز وجل حق التعظيم، وهو القائل:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن:١٨] وهو القائل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:١٣ - ١٤] فما بال البعض ممن يعلن البراءة من الشرك هاهنا ويكررها، حين يعود إلى بلاده يتوجه إلى غير الله عز وجل فيدعو غير الله عز وجل، ويرغب إلى غير الله سبحانه وتعالى، ويتوجه إلى غيره عز وجل.