للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاتزان الاتصالي]

الصفة السابعة -وهي حول التوازن والاتزان-: هي ما يمكن أن نسميه بالاتزان الاتصالي: فعملية التربية هي اتصال بين المربي ومن يربيهم، فحينما يكون المربي مجرد ملقٍ يتحدث، والذي يتربى دوره دور التنفيذ والسماع، حينما يكون الاتصال وحيد الاتجاه، فيبقى دور المتربي أن يسمع الأوامر، ويعطى نصائح دون أن يكون له فرصة للمناقشة، ولسماع ما عنده، ولسماع مشكلاته، ومن هنا فالمربي أحوج ما يكون إلى تحقيق هذا التوازن: أن يسمع كما يعطي، وأن يأخذ من هذا كما يعطيه، وأن يعطي فرصة لهذا الذي يتربى على يديه لكي يسأل ويناقش ويراجع، يعطيه فرصة ليتحدث عن مشكلاته، وليتحدث عن همومه.

إن الكثير من الأبناء اليوم يشكون أنهم لا يجدون الوقت والفرصة حتى يبثوا همومهم لآبائهم، وحتى يبثوا مشكلاتهم لآبائهم، وإن وجد الوقت لا يوجد الصدر الواسع الذي يستمع، ويستوعب ما عند هؤلاء.

ولننظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يربي أصحابه، فهاهي عائشة رضي الله عنها تسأله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر شأن الحساب يوم القيامة، فقال: (من نوقش الحساب عذب، قالت: أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:٧ - ٨]؟!) فهو سيحاسب يوم القيامة حساباً يسيرا، فتشعر عائشة رضي الله عنها بنوع من التعارض بين هذا المقال الذي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم وبين هذه الآية، فتسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليجيبها صلى الله عليه وسلم، ولم تكن لتتجرأ رضي الله عنها على أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تناقش، وأن تبدي له ما لديها لو لم يكن صلى الله عليه وسلم قد عودها على أن يستمع منها.

ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فتحدثه حديثاً طويلاً كما في الصحيح في قصة أم زرع، فيستمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حديثها بإنصات، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع).

فالمتربي -أيها الإخوة- يحتاج إلى أن نترك له فرصة للسؤال والمناقشة والاعتراض، ويحتاج إلى أن نترك له فرصة للحديث عن مشكلاته، والحديث عن همومه، وأن يبث ما لديه، وإلا فسيكون البديل هم أهل السوء، فحينما لا يجد الصدر الواسع من أبيه، ولا من أمه، ولا من معلمه وأستاذه؛ فإنه سيرى البديل عند من يستثمر هذا الضعف لديه، ومن يستثمر هذه المشكلة؛ ليحقق من وراء ذلك المقاصد والأغراض السيئة التي لا تليق.

ومن هنا كنا أحوج ما نكون إلى أن نعيد النظر في طريقة إلقائنا للأوامر، وإلقائنا للتوجيهات، وأن نعود هذا الجيل على أن يتحدث كما يسمع، وأن يأخذ ويعطي.

إن هذا النوع من التربية الذي يتعود فيه الشخص على أن يتلقى فقط يخرج جيلاً اتكالياً إن سلم من المشكلات، جيلاً لا يعتمد على نفسه ويعتمد على الآخرين، لا يستطيع أن يصنع شيئاً؛ لأنه لم يعتد أن يقول كلمة واحدة، ولم يعتد أن يناقش، ولم يعتد أن يبدي شيئاً مما لديه، ومما يعاني منه.