[هل كان المسلمون يعانون أزمات المراهقة من قبل]
قضية أخرى أيضاً: تدعونا إلى إعادة النظر فيما يقال حول عالم المراهقة، هل كان المسلمون على مدى التاريخ يعانون من أزمات المراهقة كما نعاني الآن في هذا العصر؟ هذا السؤال لو طرحته على من له أدنى صلة بالتراث الإسلامي لأجابك بالنفي مباشرة، حين نقرأ ما سطره السلف في أي فن من فنون العلم، فإننا لا نلمس أثراً لهذه المشكلة، نعم قد تجدهم مثلاً يوصون الشاب بالعبادة والطاعة، لكن هل تجدون الحديث المستفيض عن مشكلات الشباب، وعن أزماتهم، وعن عالم المراهقة الذين نعيشه الآن، هل تجدونه في تراث العلماء الأوائل؟ وهل تجدونه في كتاباتهم؟ إنك لا تكاد تجد إلا نزراً يسيراً في كتاباتهم وهذا يعني بالضرورة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة عند سلفنا.
إذاً: ما دامت غير موجودة فهذا يعني أن القضية ليست صفة ملازمة للإنسان، بل هناك عوامل أخرى وأمور أخرى تؤثر حتى ولدت هذه المشكلة التي تعاني.
نحن الآن نعاني من أزمات مزعجة في عالم المراهقة، حتى في مجتمعات المسلمين، وتجد الحديث المستفيض عن الشباب، وعن عالم الشباب، وانحراف الشباب والخطورة والمشكلات التي تواجه الشباب، هذا الحديث لا تجده كثيراً ولا تجد الإفاضة عنه في الحديث عند السلف، بل أنك حين تقرأ لسلف الأمة تجد هؤلاء ما أن يبلغ أحدهم السابعة أو الثامنة حتى تراه قد أتم حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو قطع فيه شوطاً، ثم أصبح يثني ركبتيه في مجالس العلم مستمعاً ومقيداً لما يسمع.
هكذا كان عالم الشباب في سلف الأمة، وهذا يعني بالضرورة أن القضية ليست صفة ملازمة لعالم المراهقة أنه عالم الأزمات كما يقول علماء النفس المعاصرون، بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر في هذه الأزمة وهذه المشكلة.
أيضاً قضية أخرى: ثمة نماذج من العصر الحاضر، فمع ما نعيش الآن من أزمات المراهقين، ومشكلات المراهقين إلا أننا نرى نماذج تثبت خطأ هذه النظرية الظالمة المتجددة.
من هم عمار المساجد؟ من هم حفاظ القرآن الكريم؟ لو أجريت الآن دراسة لمجتمعات المسلمين، وبحثت عن حفاظ القرآن الكريم ففي أي سن سوف تجد هذا العدد أكثر من غيره؟ قطعاً ستجد أن الكثير من حفاظ القرآن الكريم من هؤلاء المراهقين، ورواد مجالس العلم ودروس العلماء هم المراهقون، بل هم السبب أصلاً في قيامها؛ لأن هؤلاء لو لم يأتوا ولم يعمروا هذه المجالس لما استطاع الشيخ أن يلقي درسه آنذاك.
لو أجريت جولة سريعة على مجالس العلم لرأيت أن عامة الحاضرين وأكثرهم من هذه السن.
وفي عالم الجهاد لا ننسى جميعاً قضية أفغانستان، وكم هم الشباب من المراهقين الذين دفنوا هناك في بلاد العجم، في حين كان أقرانهم وأترابهم يسافرون إلى حيث الفساد والرذيلة، إلى حيث قضاء الشهوات المحرمة، وحينذاك كان جمع من شبان المسلمين يعيشون عالم المراهقة أطهاراً أبرياء، ذهبوا وهم يتمنون ألا يعودوا، ولسان حال أحدهم يقول: أذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام منجدل الثواء هنالك لا أبالي طلع بعلٍ ولا نخل أسافلها رواء لسان حالهم لسان عبد الله بن رواحه رضي الله عنه وقد قال حين ودعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى مؤتة قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا.
قال: لا ردنا الله إليكم.
ثم قال: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة وضربة تنفث الأحشاء والكبدا هكذا كان شعارهم، وهكذا كان سؤالهم، كان أحدهم إذا سجد يبكي في سجوده وهو يسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة، وأن لا يعيده إلى أهله وإلى بلاده.
ورأينا نماذج فذة من أولئك الذين شاركوا وضربوا أصدق الأمثلة، وكنا وكان المسلمون يظنون أن تلك القصص والروايات التي تروى عن الاستبسال والشجاعة والشهادة قد أغلق عليها في كتاب لن يفتح أبداً في ذاكرة التاريخ، فإذا بهم يرونها حية أمام ناظريهم، يرونها حية يفتحها ويعيدها أولئك الذين لا زالوا يعيشون عالم المراهقة.
إذاً: هذا النموذج الذي نراه في هذا العصر مع أزماته ومشكلاته يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك ظلم وجور أولئك الذين يصفون عالم المراهقة بأنه عالم الانحراف، وعالم الأزمة وعالم الفساد.