للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية وقف النية والقلب لله تعالى في كل الأعمال]

نحن نحتاج إلى من يكون وقفاً لله تعالى بقلبه وتوجهه، فلا يتوجه قلبه لغير الله عز وجل، فيخلع من قلبه قصد سواه، أو إرادة غيره، أو الميل إلى ما لا يرضيه سبحانه وتعالى، إنه يستقبل القبلة ببدنه خمس مرات كل يوم وليلة، ولكن قلبه يستقبل قبلة دائمة في منامه ويقظته، إنه ليس لقلبه إلا قبلة واحدة، فقلبه وقف لله تعالى.

وحين يدعو ويسأل فأمام ناظريه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وقبل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:١٨].

إنه لا يمكن أبداً أن يتوجه لغير الله عز وجل، أو يدعو غير الله سبحانه وتعالى، أو يسأل غير الله عز وجل، أو يستعين بغير الله سبحانه وتعالى، فهي أمور وقفت لله عز وجل، وصرفها لغير الله يعني انخلاع المرء من عبوديته لله سبحانه وتعالى إلى الذل والعار، إلى العبودية للمخلوق، والعبودية لما دون الله سبحانه وتعالى، فدعاؤه وعبادته وتوجهه وقف لمولاه سبحانه وتعالى.

قد يكون للناس نوايا وتطلعات وشوائب من الرياء، والشهرة، وحب الظهور، والتعلق بحظوظ النفس، أما هو فيجاهد نفسه ويكابدها، وهو يدرك عمق المشكلة، وشدة خطورتها، لاسيما وهو يسمع عبارات السلف تهزه هزاً عنيفاً، يسمع عباراتهم في الدعوة إلى مجاهدة النفس في تصحيح النية وإخلاصها لله عز وجل، (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).

ولا يزال قول سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي؛ لأنها تتقلب علي.

وقول يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.

لا تزال هذه الأقوال تطرق مسمعه وتتراءى أمامه، فحينئذٍ تصبح نيته وقفاً لله تعالى.

إن قضية تصحيح النية ووضوح المقصد قضية بدهية لدى الناس جميعاً، لدى الغافل والمقبل على الله عز وجل، لدى قوي الإيمان وضعيف النفس والهمة، إن الجميع يقرون بضرورة تصحيح النية، والتوجه إلى الله عز وجل.

إن الناس أيها الإخوة! قد يتوجهون لمطلب العلم، ولتحصيل العلم، هذا المطلب الملح الذي يتفق الناس جميعاً أنه مطلب شريف نزيه، وليس أولى وأدل على فضل العلم من أنه ما نسب امرؤ إلى الجهل إلا عد هذا عيباً وذماً وقبحاً، وما نسب إلى العلم إلا وعد هذا ثناء وخيراً.

إن مطلب تحصيل العلم مطلب مشترك لدى الجميع، فمنهم من يسعى إليه، ومنهم من تقصر همته دون ذلك، ولكن قد يسعى المرء للعلم فتعترض له النوايا لتقطع عليه الطريق، فتتحول نيته فيصبح مطلبه أن يقال فلان كذا وكذا، وأن يتصدر في المجالس، وأن يحصل على شهادة يسترزق بها، وأن يستطيع أن يتحدث مع المتحدثين، وأن يتفيهق مع المتفيهقين، وأن يتفاصح مع المتفاصحين.

إن العلم مهما كان عبادة وقربة لله عز وجل، ومهما كان مطلباً شريفاً يسعى إليه ذوو الهمم العالية، إلا أنه بحاجة إلى أن يصحح المرء فيه نيته، ويتفقدها ويتفقد إخلاصه، فيصبح علمه وطلبه للعلم وقفاً لله تعالى، فلا يتعلم إلا ونيته خالصة لله عز وجل، وإلا كان -عافانا الله وإياكم- أحد الثلاثة.

والدعوة إلى الله عز وجل هي الأخرى أيضاً طريق الأنبياء والرسل، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:٤٥ - ٤٦].

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:٣٣].

ولكن هذا الطريق هو الآخر قد يعترض المرء فيه ما يعترض مما يكدر نيته، أو يقطع عليه طريقه، فتنحرف مسيرته حينئذٍ، إنه قد تأسره الشهرة، فينقاد وراءها، وقد يأسره حظ من حظوظ الدنيا، أو مطمع زائل، فتنحرف نيته وتزيغ، وقد يبدو له -وقد بدأ مخلصاً صادقاً سليماً- مطمع أو مطمح فيحرفه عن مسيرته.

ومن ثم كان من أشد الناس حاجة إلى أن يصحح نيته، وأن يتفقد نيته، وأن تكون دعوته لله سبحانه وتعالى وحده، وأن يراقب نفسه ويراجعها؛ حتى تصبح دعوته وقفاً لله عز وجل، فلا يتطلع ولا يرجو غير مرضاة الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجهه، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨].

والعابد الذي قد حنا ظهره، وأسهر ليله، وأظمأ نهاره، فأصبح يشار إليه بالزهد والورع والعبادة، هو أيضاً أحوج ما يكون إلى أن يراقب نيته، وأن يصحح مقصده.

إن الشيطان أيضاً قد يجد سبيلاً ومسلكاً إلى هذا العابد، فيحرفه ويقطع عليه الطريق، ومن ثم كان هذا أيضاً بحاجة إلى أن تكون نيته وقفاً لله تعالى.

إننا أيها الإخوة! جميعاً -في أي ميدان كنا وحيثما اتجهنا- بحاجة إلى أن نفرض رقابة صارمة على نوايانا حتى تصبح وقفاً لله عز وجل، فلا تلتفت يمنة و