للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل الراحمين وما يستحقون من ثواب]

ففي الترمذي وأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله).

والراحمون يستحقون مغفرة الله سبحانه وتعالى، والمغفرة أخص من الرحمة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: (أن رجلاً كان يمشي في الطريق فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب، فلما خرج رأى كلباً يتلوى من العطش؛ فنزل البئر وسقاه، فلما سقاه غفر الله عز وجل له).

وفي رواية أنها بغي من بغايا بني إسرائيل، أرأيتم أولئك الذين رحمهم الله وغفر لهم وقد رحموا دابة من الدواب؟ فما بالكم بمن يرحم عباد الله الصالحين الأتقياء؟ وكما أعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الراحمين وأخبر أن الراحمين أولى الناس برحمة الله عز وجل ومغفرته، كذلك توعد صلى الله عليه وسلم أولئك الذين لا يرحمون، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، كما في حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس).

ومضى معنا في حديث الأقرع بن حابس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يرحم لا يُرحم).

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذين لا يرحمون أشقياء قد كتبت عليهم الشقاوة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود أنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي).

وأيضاً مضى معنا قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الأعرابي: (أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة).

إذاً: فالراحمون يرحمهم الله سبحانه وتعالى ويغفر لهم، وأولئك الذين نزعت الرحمة من قلوبهم أشقياء قد عوقبوا بنزع هذه الرحمة، وهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، فالله لا يرحم من لا يرحم عباده، والجزاء من جنس العمل فالذي يرحم الناس يستحق رحمة الله سبحانه وتعالى، والذي يكتم غيظه ويعفو عن الناس يستحق أن يغفر الله سبحانه وتعالى له ويعفو عنه.

إذاً: هذه وقفة سريعة مع إمام أهل السنة وقائدهم وفرطهم على الحوض صلى الله عليه وسلم، هذه وقفة مع هديه العملي وهديه القولي، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس: وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء فلم تعرف البشرية أرحم ولا أرفق ولا أعظم خلقاً وهدياً وسمتاً منه صلى الله عليه وسلم.

أقول: هذا هو إمام أهل السنة، وهذا هو قائدهم، وهو فرطهم على الحوض، فما أحرى بهم أن يجعلوا هديه نبراساً له وأن يتصفوا بهذه الرحمة العظيمة التي وسع بها صلى الله عليه وسلم خلق الله تبارك وتعالى، فصار صلى الله عليه وسلم رحيماً بخلق الله عز وجل حتى البهائم المعجمة كان لها نصيب من رحمته.

أقول: بهذا كان أهل السنة هم أهل الرحمة بالخلق، فكانوا خير الناس للناس، وكانوا أرحم الخلق بالخلق، وكانوا يعرفون الحق ويرحمون الخلق، كما نص على ذلك جمع ممن صنف في معتقدهم.

وأكرر ما قلته أول حديثي من أن معتقد أهل السنة وأن منهج أهل السنة لا يقف عند مجرد المقررات المعرفية وحدها، ولا عند باب من أبواب العلم والاعتقاد، بل هو منهج وسلوك يطبع حياة المسلم كلها في اعتقاده في ذات الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه وصفاته، وفيما يجب له وما يستحقه تبارك وتعالى من العبادة والتأله والخضوع والاحتكام إلى شرعه تعالى وتقدس، وفي التلقي من الوحيين دون غيرهما، وفي تعظيم أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، وفي عبادته تبارك وتعالى والاجتهاد في ذلك، وفي باب الخلق والسلوك والتعامل مع الناس.