الحج أيضاً يربي النفوس على الانضباط، والانضباط أمر مهم يحتاج إليه الإنسان في عبادته وصلته بربه تبارك وتعالى، ويحتاج إليه الإنسان في أمور دنياه، نجد مواقف عديدة في الحج، قد لا ندرك نحن حكمتها التفصيلية، فمثلاً حينما نأتي للمناسك نجد عرفة لها حدود واضحة لا يختلف الناس حولها، لو أن رجلين، الأول: وقف دخل داخل حدود عرفة، وبقي طوال وقته نائماً، ولم يذكر الله عز وجل بذكر واحد لكنه بقي داخل حدود عرفة، والآخر بقي خارج حدود عرفة وبقي يقرأ القرآن ويدعو ويتضرع فإن حج الأول صحيح وحج الثاني غير صحيح، لماذا؟ ما الفرق؟ هي أمتار، أمتار يترتب عليها أن يكون حج الإنسان باطلاً ويترتب عليها أن يكون حج الإنسان صحيحاً.
الوقت على سبيل المثال، قبل أن تغرب الشمس لا يجوز للإنسان أن يدفع من عرفة، ولو دفع قبل غروب الشمس فإن عليه دماً عند جمع من الفقهاء، وإذا غربت الشمس لا يجوز له أن يتعمد البقاء، يعني: لا يتعمد البقاء تعبداً؛ لأن هذا من مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
في رمي الجمرات مثلاً هناك وقت للبداية، ووقت للنهاية، هناك عدد محدود لا يزيد عنه ولا ينقص، في يوم النحر يرمي جمرة العقبة وحدها، وفي الأيام الأخرى يرمي الثلاث، يرميها وفق ترتيب معين وعدد معين وزمان معين وهكذا سائر أحكام الحج.
هذه تربي عند الإنسان أموراً عديدة: تربي عند الإنسان الانضباط، أولاً: الانضباط الشرعي، وتربيه على الانضباط في حياته، فإن حياة الناس الدنيوية لا تستقيم إلا بالانضباط، وهي تربي في النفس أمراً مهماً جداً وهو مسألة التسليم لله عز وجل والخضوع لله تبارك وتعالى، وأن الإنسان حتى لو لم يدرك الحكمة فإنه يجب أن يلتزم أمر الله عز وجل، والله عز وجل لم يشرع شيئاً إلا لحكمة، لكن لا يمكن أن كل الناس يدركوا تفاصيل الأحكام، والحكمة في الجملة ندركها، فنحن -مثلاً- ندرك الحكمة من مشروعية الصلاة، والحكمة من تعدد الصلوات في اليوم الواحد، ومن تنوع الصلاة بين الليل والنهار.
لكن إذا أتينا إلى تفاصيل أحكام الصلاة لا ندرك الحكمة من ذلك، لماذا صلاة المغرب ثلاثاً -مثلاً- والعشاء أربعاً والفجر ركعتين؟ لماذا تلك يجهر فيها وهذه لا يجهر فيها؟ هذا الأمر لا ندرك حكمته، ولو أن إنساناً استنبط أمراً ما فإنه يبقى في النهاية استنباطاً لا يمكن أن يقطع أن هذا هو شرع الله عز وجل، فإذا دخلنا في تفاصيل الأحكام الشرعية سوف نجد أحكاماً عديدة لا ندرك حكمتها، وعدم إدراك الحكمة لا ينفي وجود الحكمة، لكن الله عز وجل تعبدنا بذلك، تعبدنا الله عز وجل أن شرع لنا عبادات ظاهرة واضحة ندرك حكمتها في الجملة، ثم تعبدنا الله عز وجل أن نعمل أعمالاً وعبادات لا ندرك تفاصيل أحكامها، حتى يتربى الإنسان على الخضوع لله، والتسليم له عز وجل، وهذا المعنى يحتاجه الناس، يحتاج الناس إلى أن يعوا مقاصد الشريعة، ليدركوا عظمة هذا الدين، ويزيدهم إيماناً ويقيناً، ويحتاج الناس أيضاً إلى أن يتربوا على التسليم؛ يقول الله عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:٣٦]، مادام الله عز وجل قد قضى أمراً وحكم بأمر فليس لمؤمن ولا لمؤمنة الخيار، وليس هناك مجال للخيار، وليس هناك مجال للسؤال هل نمتثل أو لا نمتثل، حتى عندما نتساءل عن الحكمة وعن مقاصد التشريع فإنه لا يتوقف التزامنا بهذا الأمر على معرفة الحكمة، إنما معرفتنا للحكمة ومقاصد التشريع يزيدنا إيماناً ويزيدنا تقوى، يزيدنا يقيناً وإدراكاً لعظمة هذا التشريع، لكن لا يتوقف التزامنا بذلك على إدراك هذه الحكمة.
فالناس اليوم -مثلاً- يدركون واضحاً وجلياً الحكمة من تحريم الربا، لكن لو أن إنساناً لم يدرك الحكمة أو لم تظهر له الحكمة من تحريم الربا فإن هذا لا يبيح له أن يأكل الربا بحجة أن يقول: لماذا؛ لأن هذا الأمر قد جاء تحريمه نصاً في القرآن والسنة وأجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة، والخلاف إنما هو في بعض التفاصيل، لكن أصلاً التحريم أجمعت عليه الأمة، وحينئذٍ لا مجال لأن يتوقف امتثال الإنسان هذا الأمر على أن يتساءل: لماذا حرم الله عز وجل ذلك؟