للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تمايز الناس واختلاف إمكاناتهم ومؤهلاتهم]

أولاً: من سنة الله سبحانه وتعالى أن تختلف معادن الناس، فالله عز وجل جعلنا خلائف الأرض، ورفع بعضنا فوق بعض درجات: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:١٦٥]، رفع الله سبحانه وتعالى الناس فوق بعض درجات في التقوى في العلم في الصلاح في المؤهلات الدنيوية: في العقل في الذكاء في قوة الشخصية في القدرة على القيادة في كافة ما يتميز به الإنسان عن أخيه الإنسان، بل إن حياة الناس لا تستقيم أصلاً إلا بهذا الأمر، ولهذا أخبر الله سبحانه وتعالى أن من حكمة رفعه بعضنا على بعض درجات أن يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، أن يسخر بعضهم لبعض.

ويصور لنا النبي صلى الله عليه وسلم اختلاف الناس في تمثيل بليغ رائع، قيل له: (من خير الناس؟ قال: أتقاهم، قيل: ليس عن هذا نسألك، قال: نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله -يعني: يوسف عليه السلام- قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألونني؟ الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).

إذاً: فيشبه النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالمعادن، بعضهم كالذهب، وبعضهم كالفضة، وبعضهم كالمعادن التي هي دون ذلك، ولكن أيضاً المعادن الأخرى التي دون الذهب والفضة لها دور لا بد أن تؤديه ولا يمكن أن يستغني الناس عنه، ومهما بلغنا في التربية، ومهما ارتفع مستوى التربية التي يتلقاها الإنسان فإنها لا يمكن أن تصل إلى أن تحول المعدن من حديد إلى ذهب، ولا يمكن أيضاً أن تحول الحديد إلى فضة، ولا يمكن أن تحول الفضة إلى ذهب، فيبقى بعد ذلك معدن الإنسان؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في الجملة الثانية من الحديث: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، أي: أولئك الذين كانوا يملكون مقومات عالية في الجاهلية إذا هداهم الله عز وجل ووفقهم للإسلام سيكونون خيار الناس؛ نظراً لأنهم يملكون مقومات فهم، ويملكون قدراً من الذكاء، ويملكون قدراً من قوة الشخصية، ويملكون قدراً من قيادة المجتمعات وتوجيهها، ولكن هؤلاء إن بقوا في الجاهلية فسيبقون شراراً لا خير فيهم ما لم يدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى.

إذاً: فمن القضايا التي يتفق عليها ويدركها العقلاء أن الناس يتفاوتون، فمنهم النابغ ومنهم الذكي ومنهم دون ذلك، ومنهم من هو كما قال الأول: والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى الذين يقودون البشرية ويقودون المجتمعات هم بشر صحيح، ولكنهم على الأقل يملكون مؤهلات خاصة تؤهلهم لهذا الأمر، وهذه قضية -كما قلت- يدركها العقلاء، وهي قضية جاءت في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).

وأيضاً دل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد:١٧]، الماء الذي نزل من السماء واحد، ولكن الأودية تحتمل من الماء وتحتمل من هذا السيل بقدر ما تتسع إليه، فهذا واد يحتمل الشيء الكثير، وهذا لا يحتمل إلا القليل، ومثل ذلك ينطبق على الناس فتظهر فيهم الاستفادة على حسب ما في القلوب من استعداد وتوجه وإخلاص وتجرد من الشوائب، ولهذا يقول أيضاً صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

على كل حال لا أريد أن أطيل في هذه القضية التي -كما قلنا- يتفق عليها الجميع، لكن أقول: إذا كان من طبيعة الناس أنهم يتفاوتون وأن فيهم أصحاب القدرات العالية وفيهم من هم دون ذلك، فلا بد أن نعتني نحن بأولئك الذين ما خلقهم الله يملكون قدرات عالية إلا لحكمة يريدها سبحانه وتعالى، حتى يتأهلوا لقيادة البشرية، فإما أن يقودوا البشرية إلى الدمار والهلاك، وإما أن يقودوا البشرية إلى الصلاح والخير والاستقامة.