للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عناية السلف بالخشوع وأقوالهم في ذلك]

الأمر الخامس: عناية السلف بهذا الأمر، والحديث عن أحوال السلف، في الخشوع والصلاح والورع والتقوى حديث يطول، بل إنك لو أخذت سيرة علم واحد من أعلام السلف رضوان الله عليهم، لشعرت أن المقام لا يسعك في الحديث عن أحواله، في الخشوع والعبادة والتقوى والصلاح.

واقرأ في تراجم الفقهاء والعلماء من سلف الأمة، بدءاً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ عبد الله بن مسعود وابن عمر، وأبي موسى وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاذ وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وانتقل إلى الحسن وإلى سفيان وإلى أيوب، وإلى مكحول، وإلى غيرهم، ثم انتقل إلى الليث وابن سيرين ومالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم.

ثم انتقل إلى من تلاهم فاقرأ في سيرة ابن قدامة وابن الجوزي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم.

وانظر كيف كانت حالهم في العبادة، والتقوى والصلاح، وأنت حين تتأمل في سيرة البعض، فقد ترى أن المأثور عنهم في أبواب الزهد والرقائق أضعاف المأثور عنهم في مسائل الفقه والحلال والحرام.

وهذا يعني أن السلف رضوان الله عليهم لم يكونوا يعرفون هذا الفصل، ولم يكونوا يعرفون هذه الهوة المفتعلة بين هذا العلم وبين مسائل الحلال والحرام، وسائر أبواب العلم والفقه.

وهاهي طائفة من أقوال سلف الأمة، وهي كثيرة من أرادها فليرجع إلى مظانها، مما صنفه أهل العلم في أبواب أدب العالم والمتعلم، أو صنفه أهل الحديث في أبواب العلم، لكني أشير إلى طائفة يسرة من النقول عنهم، ولن أشير أيها الإخوة إلى أخبارهم في الخشوع والصلاح والتقوى، ولا إلى ما قالوه في ذلك، إنما سأقتصر على ما نقل عنهم، من الربط بين العلم والخشوع، لأن هذا هو موضوع حديثنا، وإن كانت جميع أقوالهم وأحوالهم تعتبر دليلاً على ذلك، لأن أولئك هم حملة العلم، وهم أهل العلم، فإذا كانت حالهم كذلك، فإن هذا يعني أن هكذا ينبغي أن يكون أهل العلم، وينبغي أن يكون طلاب العلم.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.

وروى أيضاً عن مالك رحمه الله يقول: (العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل).

وقد أخبر الله تبارك وتعالى أن هذا الكتاب قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:١].

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:٢٥٧].

نعم إن العلم وسيلة لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الهوى والتعصب والحقد والحسد إلى نور سلامة الصدر والقلب وصفائه.

ويقول مالك أيضاً فيما رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: (إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله).

ويروي الإمام الآجري في أخلاق العلماء، عن يحيى بن أبي كثير: (العالم من خشي الله، وخشية الله الورع).

وروى الإمام الدارمي عن سعد بن إبراهيم أنه قيل له: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه.

وينقل لنا الحسن رحمه الله فيما رواه ابن عبد البر والآجري عنه وصفاً دقيقاً لأحوال السلف يقول: (إن كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وبصره ولسانه ويده وزهده.

وإن كان الرجل ليطلب الباب من أبواب العلم، فيعمل به فيكون خيراً له من الدنيا وما فيها، لو كانت له، فجعلها في الآخرة).

إذاً: فالقضية ليست مجرد أحوال، ارتقى إليها بعض سلف الأمة.

وليست مجرد أقوال ذكرت عن بعضهم، إنما هو سلوك كان سائداً عند السلف رضوان الله عليهم، فكان أن يبدأ الرجل في طلب العلم، حتى ترى هذه الأحوال لديه، ونتساءل معشر طلاب العلم اليوم، ونحن نتعلم العلم، فنقرأ ونحضر مجالس العلم، ونعلم العلم، أين هذا في أحوالنا؟ وهل يرى ذلك علينا؟ أترون أن هذا عيب في العلم؟ أترون أن العلم لا يرقق القلوب، أم أن لنا شأناً مع العلم ومع طلب العلم غير شأن السلف رضوان الله عليهم، وأنا فقدنا هذا الجانب؛ لذلك أصبحنا نتعلم أبواب العلم، ونحصل المراتب والشهادات العالية، ونحن من أقسى الناس قلوباً، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم رقة القلب وخشيته تبا