[صفية بنت عبد المطلب وأسماء بنت أبي بكر]
وحديثنا في هذا اللقاء -معشر الأخوات الكريمات- يدور حول محاور ثلاثة: أولها: المرأة أم: إنك على مدى التاريخ القريب والبعيد لابد أن تري أسماء لامعة كتبت في صفحات بيضاء ناصعة في تاريخ أمتها، وتلك الأسماء -القائدة والمجاهدة والعالمة والمصلحة- أياً كان موقعها لابد أنه كان وراء كل منهما امرأة صالحة أعدت هؤلاء حتى صاروا إلى ما صاروا إليه، وهذا الأمر ليس حكراً على المسلمين، بل حتى سائر الأمم -الصادقون منهم- يعترفون بدور المرأة في ذلك.
حين هنئ لنكولن أحد الزعماء الأمريكان قال: لا تهنئوني وهنئوا أمي؛ فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا.
ولسنا بحاجة إلى أن نستعرض سيرة هذا الرجل وأشباهه؛ فأمامنا صفحات واسعة قد لا نستطيع أن نأتي على جزء يسير منها في هذا اللقاء، أمامنا صفحات واسعة من تاريخ أمتنا، من أولئك النساء اللاتي كان لهن دور في إعداد الرجال على مدى تاريخ هذه الأمة الطويل.
فها هي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها تقبل حين استشهد حمزة رضي الله عنه؛ لتنظر ما فعل القوم بأخيها، فيقول صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: (دونك أمك فامنعها)، وأكبر همه صلى الله عليه وسلم ألا يجد بها الجزع لما ترى، فلما وقف ابنها يعترضها قالت: دونك لا أم لك.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها بذلك، فقال: (خل سبيلها)، فأتت إلى صفوف الناس، حتى أتت إلى أخيها، فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له، وقالت لابنها: قل لرسول الله: ما أرضانا بما كان في سبيل الله، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله! وحين كان لـ عبد الله بن الزبير ما كان دخل على أمه، فقال: يا أمه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من نهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية، فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟! القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير! والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل! فقال: يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: يا بني! إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله.
وحين قتل رضي الله عنه دخل ابن عمر المسجد فأبصره مطروحاً قبل أن يصلب، فقيل له: هذه أسماء فمال إليها وعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند الله عز وجل، فقالت له أسماء رضي الله عنها: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
واسمعي إلى ما قالته للحجاج حين قتل ابن الزبير، دخل عليها فقال لها: يا أمه! إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكني أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد رأيناه -تعني المختار - وأما المبير فأنت.
فقال لها: مبير المنافقين.
وفي رواية عن يعلى التيمي قال: دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث، وهو مصلوب، فجاءت أمه عجوز طويلة عمياء، فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟! قالت: والله ما كان منافقاً، كان صواماً قواماً براً، قال: انصرفي يا عجوز فقد خرفت! قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في ثقيف كذاب ومبير) الحديث.
إن تلك الروح العالية التي كانت لدى أسماء رضي الله عنها هي التي صنعت الاستبسال والشجاعة في ابن الزبير رضي الله عنه.
ويحتاج المصلحون الذين يدفعون أرواحهم وحياتهم وما لديهم ثمناً لدعوتهم وعقيدتهم، وترخص عندهم الأمور في سبيل الله سبحانه وتعالى، يحتاجون إلى مثل هذه الأم التي تدفعهم إلى ميدان البطولة، تدفعهم إلى ميدان الاستشهاد، تدفعهم إلى ميدان تحمل ضريبة كلمة الحق، وضريبة الموقف الحق حين يشعر صاحبه أنه إنما عمل لله، وأنه إنما قام لله، فنحن أحوج ما نكون إلى مثل هذه الأم.
بعيداً عن تلك الأم التي تخدر، والتي تخاف على ابنها من مصائب الدنيا، وها هي هند بنت عتبة رضي الله عنها أم معاوية بن أبي سفيان كان يفتخر بها إذا افتخر فيقول: أنا ابن أمي هند.