للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طغيان العاطفة]

الأمر الثامن: طغيان العاطفة: الإنسان عنده عواطف، والعاطفة هي عدو المنطق والعقل، كثيراً ما تقود العاطفة الإنسان إلى مواقف يندم عليها، ودعوني أضرب على ذلك مثالاً بالطلاق، فلو ذهبت تتساءل عن الحالات التي تحصل، سواء المرأة التي تطلب الطلاق، أو الزوج الذي يطلق زوجته، تجد كثيراً من هذه الحالات كانت نتيجة موقف عاطفي، تجد أنه غضب هذا الرجل لموقف تافه، فطلق زوجته، وقد يطلقها ثلاثاً، وقد يحرمها، والزوجة كذلك قد تغضب من موقف فتطلب الطلاق من زوجها فيطلقها، ثم حينما تهدأ الأمور يندمون، كم هم الذين يأتون إلى المحاكم، ويأتون إلى المشايخ يبحثون عن شيخ يترخص في فتاوى الطلاق حتى يفتيهم! انظر كيف أدت العاطفة أثرها.

دعني أضرب على ذلك مثلاً قد يكون أقرب إلى الفهم: لو أخطأ أحد أولادك خطأً استفزك وأثارك، فكيف ستعمل في الموقفين الآتيين: الموقف الأول: إذا رأيته بعد الخطأ مباشرة؟ الموقف الثاني: أتيت إلى المنزل وقيل لك: إن فلاناً فعل كذا فغضبت، لكن لم تجده، ذهبت إلى الصلاة أو العمل، ثم أتيت بعد ساعة أو ساعتين، هل تعتقد أن تعاملك في الموقفين سيكون واحداً، كلا، لماذا؟ إن الموقف الأول كنت فيه في ثورة العاطفة، فالعاطفة تجعل الإنسان يصعب عليه أن يستقر، وأن يتوازن، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)؟! لماذا؟ إذا كان الإنسان غضبان فإنه لا يفكر بطريقة هادئة، لا يستطيع أن يتحرى الحق، فيأتيه الشهود فلا يستطيع أن يتبين صدقهم من عدم صدقهم، لا يتبين صدق البينة، ولهذا ألحق الفقهاء بذلك العطش الشديد، والجوع، والذي يدافعه الأخبثان إلى غير ذلك، ألحقوها بحالة الغضب، فقالوا: لا يقضي القاضي في هذه الحالات؛ لأن هذا يشغله عن أن يفكر بطريقة تعينه على الوصول إلى الحق، وهكذا حماس الإنسان لشيء ومحبته لشيء، العاطفة تقود الإنسان إلى المبالغة يمنة ويسرة.

إن الخطاب العاطفي يسيطر علينا بدرجة كبيرة جداً، ويؤثر علينا كثيراً، وابحث عن مصداق ذلك: فلو قام رجلان بعد الصلاة يتحدثون أمام الناس والمسجد فيه جمع كثير، الشخص الأول يتحدث بصوت قوي وألفاظ جزلة، يذكر بعض القصص والشواهد المزعجة والمؤلمة، والشخص الثاني يتحدث بهدوء، يتحدث حديثاً منطقياً عقلانياً، فكم نسبة الذين يصغون للأول والذين يصغون للثاني؟! كم نسبة الذين يتأثرون بالأول والذين يتأثرون بالثاني؟ الناس كثيراً ما تؤثر عليهم المواقف العاطفية والحديث العاطفي، نعم لا نلغي ذلك، فالله عز وجل لم يخلق العاطفة عبثاً، لابد من استثارة العواطف في المواقف التي تحتاج إلى ذلك، والعواطف تعمل عملها في النفوس، وقد تقود الناس إلى الحق، خذوا على سبيل المثال غزوة مؤتة، كان المسلمون ثلاثة آلاف، وقابلوا الروم وهم يزيدون عن مائتي ألف، ثم ترددوا: هل نعود؟ فتحدث الناس، فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وحدث الناس، وكان حين خرج من بيته حينما ودعوه وقالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردنا الله إليكم: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا فكان يتشوف للقاء الله، يتشوف للشهادة، وكان معه زيد بن أرقم رضي الله عنه، يقول: فكان ينشد يقول: إذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء قال زيد بن أرقم: فبكيت، فنخزني وقال: لا عليك -يا لكع- أن يرزقنا الله الشهادة وتعود على ظهر الدابة.

المقصود: حينما جلس الناس يناقشون ماذا يصنعون، قام عبد الله بن رواحة فقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون، إنها الشهادة، والله لا نقاتل القوم بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الإيمان إلى آخره، قال الراوي: فحمس عبد الله الناس، فتحمس الناس، وقابلوا الروم، وكان ما كان من شأنهم رضوان الله عليهم.

المقصود: أن الخطاب العاطفي ليس سلبياً وحده، لا يسوغ أن نلغيه، لكن ينبغي أن يكون بقدر، فالواقع أن الخطاب الدعوي تزيد فيه مساحة العاطفة بشكل كبير، الحديث الذي ينصت له الناس أكثر، الشريط الذي ينتشر، الحديث الذي يعجب الناس، هو الحديث الذي تزيد فيه الشحنة العاطفية، وهذا يزيد من مستوى تأثير العاطفة على الناس، والعاطفة إذا زادت لا تقود الناس إلى الاتزان، لا تقود الناس إلى الاعتدال، لا ينبغي أن نلغي العاطفة، لكن ينبغي أن نضعها في إطارها الطبيعي، وينبغي في مقابل استثارة عواطف الناس أن نخاطب الناس بخطاب عقلاني منطقي يحترم تفكير الناس، فيخاطب الناس بالأدلة الشرعية، بالأدلة المقنعة، بالحوار المقنع، هذا سيجعل مواقف الناس أكثر اعتدالاً وأكثر اتزاناً.