سادساً: طالب الله عز وجل بالبرهان إخوان القردة اليهود والنصارى، وقد اعتاد الناس جميعاً مسلمهم وكافرهم أن أولئك لا يعرفون منطق الدليل ولا البرهان والحجة، أولئك لا يحسبون لكلماتهم أي حساب، فهم إما قوم مغضوب عليهم قد لعنهم الله عز وجل وطبع على قلوبهم، أو قوم ضالون، فاليهود قوم قد غضب الله عز وجل عليهم وطبع على قلوبهم، وصاروا لا يحسبون لكلمتهم حساباً، أليسوا هم القائلون:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}[آل عمران:١٨١]؟ تعالى الله عما يقولون، أليسوا هم القائلون أخزاهم الله:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}[المائدة:٦٤]؟ {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[المائدة:٦٤] يلعنهم الله عز وجل في كتابه لعنات متتابعة إلى يوم القيامة، ومع سخف مقالتهم وشناعتها وسخف مقالة إخوانهم من الضالين النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، هم أولئك الذين أعاروا عقولهم لطغاة الرهبنة والقساوسة حتى يفكروا بالنيابة عنهم، وحتى يفهموا الكتاب المقدس بالنيابة عنهم، وحتى يمسخوا عقولهم ويقولون: ليس لكم حق في فهم كتاب الله عز وجل، مع ذلك يدعي اليهود والنصارى دعوى عريضة مضحكة:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}[البقرة:١١١]، فيجادلهم الله بالقرآن، يجادلهم بالحجة والبرهان والدليل، يقول الله سبحانه وتعالى حاكياً مقالتهم:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:١١١].
نعم إن كان لديكم دليل أو حجة أو برهان فهاتوا برهانكم، وهاتوا دليلكم.
وكل ما سبق من المطالبة بالدليل والبرهان، من مطالبة الذين اتخذوا مع الله عز وجل إلهاً آخر، ومن مطالبة الذين اتخذوا الولد مع الله سبحانه وتعالى ونسبوا إليه الولد، ومن مطالبة الذين جعلوا الملائكة وهم عباد الرحمن إناثاً، ومن مطالبة المجادلين في آيات الله سبحانه وتعالى بغير علم، ومن مطالبة أولئك الذين ادّعوا التسوية في الدار الآخرة بين المؤمنين والكفار، وأخيراً مطالبة اليهود والنصارى بالدليل والبرهان على دعواهم أنهم وحدهم الذين يدخلون الجنة إن كل ما سبق يعطينا دلالة أنه لا يحق لأحد أن يدّعي دعوى إلا ببرهان وحجة وسلطان مبين، وأيضاً أنه لا يحق لامرئ أن يجادل أو يناقش، أو يُبطل دعوى أخرى إلا بالبرهان والحجة والسلطان.
ويتنوع الحديث عن الدليل في القرآن، فتارة يأتي بالبرهان، وتارة بالحجة، وتارة بالسلطان، وتارة بالعلم، وكلها معان لها أثر ولها وقع في بيان مصدر التلقي، والحجة، والدليل، والجدل، والحوار، كله إنما ينبغي أن يكون بلغة الدليل والحجة والبرهان، والكتاب، والعلم، والسلطان وهي كلها معان تدور حول معنى الحجة وبعيداً عن العاطفة، بعيداً عن الأحكام المسبقة، بعيداً عما سماه الله عز وجل أماني ودعاوى كاذبة.